آن الأوان للأزمة الليبية أن تنتهي بجمع مختلف الفرقاء على طاولة أردوغان للتوصل إلى حل. مصالح تركيا كانت جزءا من حطب المعركة واليوم يمكن أن تكون بابا يؤدي إلى السلام.
موجودون في ليبيا لنبقى
في أكثر من مناسبة، خاطب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شعبه بجملة تلخص التطلعات التوسعية المعبرة عن التراث الإمبراطوري لبلاده “موجودون في ليبيا وأذربيجان وسوريا وشرقي المتوسط وسنبقى”. احتلت ليبيا المركز الأول من حيث الاهتمام والترتيب والتركيز والحضور، نظرا لطبيعتها الإستراتيجية كصاحبة أطول شريط ساحلي على الضفة الجنوبية للمتوسط، وبوابة للقارة الأفريقية التي ينافس الأتراك بقوة على مراكز النفوذ داخلها، بالإضافة إلى ما تمثله كفرصة مالية واقتصادية واستثمارية لا يمكن التفريط فيها مهما كان الثمن.
في يوليو 2020 أعلن أردوغان، بوضوح، أن الدعم المعلوماتي والعملياتي الذي وفّره جهاز المخابرات التركية غيّر قواعد اللعبة في ليبيا، وأن هذا الدعم “أوقف تقدم الانقلابي حفتر الذي تبنى الطرق العسكرية بدل الحل السياسي في ليبيا”. وأضاف أنه بفضل تعاظم تأثير المخابرات الخارجية، بدأت بلاده تحتل مكانتها في كافة المحافل كقوة إقليمية وعالمية، مردفا أن “المكاسب التي حققناها في مناطق الصراعات، تعزز قوتنا على طاولة المفاوضات وتمنحنا قوة الدفاع عن مصالح شعبنا”.
لم يجانب أردوغان الصواب، وإنما أكد حقيقة ما حدث بالفعل في المواجهة التي شهدتها ليبيا بعد هجوم قوات الجيش القادمة من المنطقة الشرقية على غرب البلاد في الرابع من أبريل 2019 ومحاولتها السيطرة على العاصمة طرابلس. وفي 27 نوفمبر من ذلك العام، وقّع أردوغان ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية آنذاك فايز السراج مذكرتي تفاهم بشأن التعاون الأمني والعسكري وتحديد مناطق الصلاحيات البحرية لحماية حقوق البلدين المنبثقة عن القانون الدولي، وصادق البرلمان التركي على مذكرة تحديد مناطق الصلاحيات البحرية مع ليبيا في 5 ديسمبر 2019.
◙ اليوم، تتمسك تركيا أكثر بمصالحها في غرب ليبيا بالتحالف مع حكومة عبدالحميد الدبيبة، وتحاول تأمين موطئ قدم لها في المنطقة الشرقية بالانفتاح على القيادة العسكرية هناك
بمفعول مذكرة التفاهم الأمني والعسكري، تحول غرب ليبيا إلى مهمة أساسية أمام المخابرات والجيش التركيين بدعم كبير من حلف الناتو، رغم الرفض المعلن من قبل بعض العواصم الغربية وفي مقدمتها باريس التي كان لها موقفها المناهض لتيارات الإسلام السياسي وللنزعة التوسعية التي يعتمدها أردوغان في عدد من المناطق من منطلق ما تمثله من إرث تاريخي للإمبراطورية العثمانية التي يحاول إحياء روحها.
نجح الحضور التركي في قلب موازين المواجهة بالغرب الليبي ما جعل قوات الجنرال حفتر تغادر آخر معقل لها وهي مدينة ترهونة في أوائل يوليو 2020. كانت ليبيا قد تحولت إلى أكبر مسرح حرب لطائرات بدون طيار في العالم. وأشار فريق خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، الذي تم إنشاؤه عام 2011 بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1973، إلى “حرب الطائرات بدون طيار” في ليبيا، وقدم تفاصيل عن هجمات مميتة مكثفة نفذتها أنواع مختلفة من الطائرات بدون طيار، وأشار إلى قوى أجنبية مختلفة قامت بتوفير تكنولوجيا الأسلحة للجماعات المقاتلة. وتبين لاحقا أن امتلاك اليد العليا في الهواء أدى إلى تحقيق مكاسب على الأرض.
دفعت أنقرة بخبرائها وبعدد من ضباطها العسكريين وبأسراب المسيرات وحوالي 20 ألف مرتزق من الميليشيات السورية الموالية لها إلى ساحة المعركة في ليبيا، وكانت النتيجة خلال أقل من نصف عام قاعدة عسكرية تركية في “الوطية” شمال غرب البلاد حلت محل قاعدة “عقبة بن نافع”، وغرفة عمليات في قاعدة “معيتيقة” بطرابلس وأخرى في مصراتة، وقاعدة بحرية تمتد إلى مدينة الخمس، مع وضع اليد على عدد من المعسكرات التي تحولت إلى مقارّ لإقامة وتدريب المرتزقة السوريين، وعلى القرار السياسي لطرابلس، بالإضافة إلى دور أساسي في الوضع المالي والاقتصادي بالبلاد، وهو ما يزال يدعم يوما بعد يوم.
وفي جولته الأفريقية في أكتوبر 2021، نقل عن أردوغان قوله “في كل مكان أذهب إليه في أفريقيا، يسأل الجميع عن الطائرات بدون طيار”. كانت تفاصيل أحداث ليبيا قد انتشرت في عموم القارة، وفي بقية دول العالم. لاحقا أصبحت بولندا أول دولة في الناتو تشتري طائرات بدون طيار من أنقرة. خلال زيارة إلى تركيا، أشار وزير الخارجية البولندي زبيغنيو راو إلى هذه الطائرات بأنها “أثبتت فعاليتها في المعركة”، وقال إنها “ستعمل على تعزيز قدرات الجيش البولندي والمساهمة في تعزيز الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي”.
حاليا تستعمل هذه الطائرات من قبل أوكرانيا في الحرب مع روسيا ويتم نشرها أيضا من قبل مجموعة متنوعة من الدول حول العالم.
◙ الحضور التركي نجح في قلب موازين المواجهة بالغرب الليبي ما جعل قوات الجنرال حفتر تغادر آخر معقل لها وهي مدينة ترهونة في أوائل يوليو 2020
أمضت تركيا وليبيا عددا من الاتفاقيات العسكرية والأمنية في السنوات الأخيرة، وساعدت طرابلس في استقرار الليرة التركية: في عام 2020، أودع البنك المركزي الليبي 8 مليارات دولار في البنك المركزي التركي بدون فوائد لمدة أربع سنوات. ومع اكتشاف الموارد الهيدروكربونية في شرق البحر الأبيض المتوسط في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، بدأت دول المنطقة في اتخاذ خطوات لتأسيس ولايتها القضائية البحرية. ويعتبر الأتراك أن هناك قوى إقليمية حاولت استبعادهم من الملف لاسيما بعد تنظيم مؤتمرات مثل منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط دون استدعائهم إليه. بسبب عزلتها وتوتر علاقاتها مع جيرانها، لم تجد أنقرة سوى عقد اتفاقية ترسيم الجرف القاري مع جمهورية شمال قبرص التركية في عام 2011، ثم التوقيع على مذكرة التفاهم مع حكومة الوفاق الليبية في عام 2019، والتي تحظى بأهمية قانونية وإستراتيجية عكس الاتفاقية مع جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها دوليا.
في مايو 2020، صرح وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونميز أن شركة البترول التركية تقدمت بطلب للتنقيب عن النفط في المناطق الممنوحة للترخيص ضمن نطاق الاتفاقية مع ليبيا، وأن أول أنشطتها سيبدأ خلال أشهر. في 17 يونيو 2020 قام وفد رفيع المستوى ضم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو والمتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، ووزير المالية براءت البيرق، ومدير جهاز المخابرات الوطنية هاكان فيدان بزيارة غير معلنة إلى ليبيا لمناقشة القضايا الهامة المتعلقة بالطاقة والبنوك. في تلك الأثناء، كان المسؤولون الأتراك يتعاملون مع غرب ليبيا كولاية ملحقة ببلادهم. في كثير من المناسبات قام أردوغان باستحضار التاريخ العثماني في البلد العربي الممتد على الضفة الجنوبية للمتوسط والفاصل بين المشرق والمغرب العربيين ليجد المبرر الكافي لاقتحام العمق الليبي.
يعود تعاون ليبيا مع الشركات التركية، وخاصة شركات المقاولات، إلى عام 1972. وتشير التقديرات إلى أن القيمة الإجمالية للعقود التي وقعتها الشركات التركية حتى عام 2011 تبلغ نحو 40 مليار دولار. أعطت حكومة الوفاق ثم حكومة الوحدة الوطنية الأولوية للأتراك في المشاريع المقرر تنفيذها في ليبيا في الحقبة المقبلة والتي ستبلغ قيمتها 50 مليار دولار على الأقل.
في ثمانينات القرن الماضي، كانت ليبيا وجهة جذابة في بحث تركيا عن الأسواق في الخارج، والذي كان مدفوعا بالتحول نحو النمو الموجه نحو التصدير. آنذاك أدى رئيس الوزراء التركي تورغوت أوزال زيارة إلى ليبيا لتطوير العلاقات متبادلة المنفعة، وفي التسعينات، سعت الحكومات التركية المتعاقبة إلى تطوير العلاقات الثنائية مع ليبيا بما يتماشى مع أجندات سياستها الخارجية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك سياسة رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان في بناء علاقات أوثق مع العالم الإسلامي، مما دفعه إلى زيارة ليبيا كجزء من جولته الأفريقية في عام 1996 بهدف تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية.
◙ بمفعول مذكرة التفاهم الأمني والعسكري، تحول غرب ليبيا إلى مهمة أساسية أمام المخابرات والجيش التركيين بدعم كبير من حلف الناتو، رغم الرفض المعلن من قبل بعض العواصم الغربية
في 25 نوفمبر 2009 أجرى الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي مباحثات مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عندما أدى زيارة رسمية إلى ليبيا على رأس وفد يضم عددا من الوزراء و150 من رجال الأعمال. حتى ذلك التاريخ كانت تركيا تعد ثاني أكبر دولة مستثمرة في ليبيا بعد روسيا في قطاع المقاولات الإنشائية حيث وصلت قيمة المشاريع الإنشائية التي نفذتها الشركات التركية بين 2002 و2008 حوالي 8 مليارات دولار، وكانت تطمح إلى المرتبة الأولى بعد إعلان القذافي بمناسبة الذكرى الأربعين لتوليه السلطة عن خطة استثمارية خمسية مقدارها 160 مليار دولار اعتبارا من عام 2009. وفي السابع من أبريل 2010، قال إبراهيم حافظ رئيس اللجنة التسييرية لمجلس رجال الأعمال الليبيين آنذاك في كلمته بمناسبة افتتاح المنتدى الاقتصادي الليبي – التركي الثاني بطرابلس، إن الفرص متاحة أمام الشركات التركية للمساهمة في تنفيذ المشاريع في ليبيا وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين للوصول إلى الرقم المستهدف وهو 10 مليارات دولار سنويا. وذكّر في هذا الصدد بسن العديد من القوانين في بلاده، وإصدار القرارات اللازمة من أجل تطوير الاقتصاد الليبي، وتوسيع قاعدة الملكية الشعبية والإنتاج، ودعم القطاع الخاص وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتأسيس سوق الأوراق المالية وإصلاح النظام المصرفي، وإنشاء مناطق للتجارة الحرة، وتأسيس شراكة قوية بين القطاعين العام والخاص، والشروع في تنفيذ تنمية طموحة تبلغ قيمتها أكثر من 150 مليار دينار تهدف إلى تنمية البلاد وتنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على النفط كمصدر وحيد وإلى تطوير السياحة والبنية التحتية والطاقة، وبناء آلاف المساكن وتطوير الموانئ والمطارات والطرقات والاتصالات وإقامة مشاريع زراعية وصناعية لإنتاج السلع للاستهلاك المحلي والتصدير.
كان القذافي معجبا بشخصية أردوغان إلى درجة التوصية بمنحه جائزة الدولة لحقوق الإنسان التي كانت تحمل اسمه وهو ما تم بالفعل في نوفمبر 2010، كما دعاه إلى القمة العربية الثانية والعشرين في سرت التي حملت اسم قمة “صمود القدس”.
في كثير من المناسبات أكد المسؤولون الليبيون الموالون لأنقرة أنهم يعتمدون على رصيد من التجارب الناجحة للشركات التركية في ليبيا على مدى نصف القرن الماضي. فيما يستشهد الأتراك بتجارة البناء التي ازدهرت على أيديهم في ليبيا وبلغت 29 مليار دولار في عام 2010، قبل أن تنخفض بشكل ملحوظ في السنوات التالية. وفي الآونة الأخيرة، بدأت حكومة طرابلس في منح العقود للشركات التركية: في عام 2020، على سبيل المثال، قامت شركات البناء التركية ببناء ثلاثة آلاف منزل جاهز في طرابلس.
اليوم، تتمسك تركيا أكثر بمصالحها في غرب ليبيا بالتحالف مع حكومة عبدالحميد الدبيبة، وتحاول تأمين موطئ قدم لها في المنطقة الشرقية بالانفتاح على القيادة العسكرية هناك. سواء من خلال استئناف إنجاز المشاريع المؤجلة، أو الانضمام إلى مشاريع إعادة الإعمار في درنة ومدن الجبل الأخضر، أو عبر الصفقات التجارية المهمة، والأهم من ذلك عبر محاولة طي صفحة الماضي وجمع مختلف الفرقاء على طاولة أردوغان للتوصل إلى حل مقنع لأزمة آن لها أن تنتهي. مصالح تركيا في ليبيا كانت جزءا من حطب المعركة واليوم يمكن أن تكون بابا يؤدي إلى ساحة السلام والمصالحة.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة