آن للسوريين أن يسدلوا الستار على فترة هيمن عليها الحزب الواحد، ليس فقط لأن عصر الأيديولوجيا أفل، بل لأن السوريين اليوم أحوج ما يكونوا لإعادة بناء الثقة المفقودة بينهم، فهي وحدها ما يمهد لمصالحة حقيقية. والقربان، إن أريد للتجربة أن تنجح، هو حزب البعث العربي الاشتراكي.
ما تحتاجه سوريا هي أحزاب تعيد إلى سوريين الهوية التي ابتلعها حزب البعث، على مدى نصف قرن وأزيد. أمام المنتمين إلى الحزب فرصة ليكونوا سباقين إلى طرح التغيير والتبدل، وإعلان انتهاء عهد إلغاء الآخر.
السوريون اليوم يبحثون عن إعادة اكتشاف هويتهم، التي فقدوها في اللحظة التي فرضت عليهم فيها عبارة “عربي سوري”. حان الوقت لنقول نحن السوريون. في تونس لن تسمع عبارة “عربي تونسي”، ستسمع “نحن التوانسة”، وهذا ما يحتاجه السوريون اليوم أن يقولوا “نحن السوريين”.
هذه العبارة ستمسح الكثير من الألم، الذي تسبب فيه إلغاء الآخر. رغم أن سوريا، تاريخيا، هي بلد الآخر أكثر من أي بلد آخر في العالم. دخول العرب إلى مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب لم يلغ هوية تلك الشعوب، رغم تبنيها اللغة العربية والدين الإسلامي. بقي المصريون مصريين، والتونسيون تونسيين.. فلماذا نلغي هوية السوريين؟
أمام السوريين فرصة للمصالحة يجب أن لا تخسر، فالرياح إن صدقت الحكمة، لا تهب إلا مرة واحدة. سوريا لا تريد محاكم تفتيش، ولا تقليب في ملفات الماضي، ما تحتاجه هو بناء المستقبل.
ستة وخمسون عاما، والسوريون يرددون “وحدة حرية اشتراكية”، فماذا تحقق من هذا الشعار؟ سوريا مهددة اليوم بالتقسيم، بدلا من تحقيق حلم الوحدة، والحرية ضاعت في مواجهة الإرهاب، أما الاشتراكية فتحولت إلى شراكة في الفقر والأزمات، بعد أن تخلت عنها موسكو وبكين وهافانا.
لنؤسس لأنفسنا أحزابا جديدة، لا يقل عددها عن المئة، والأهم أن نطرح الشعارات جانبا ونجابه الواقع. إن كنتم صادقين في صياغة دستور جديد للبلاد، يتفق عليه السوريون جميعا، هاتوا برهانكم، أعلنوا ترجل حزب البعث العربي الاشتراكي عن الحكم. سوى ذلك عبث لا طائل منه. سوريا حديقة حجبها عشب ضار حان اقتلاعه، وحان للسوري أن يفتخر بانتمائه العرقي والطائفي، دون إحساس بالخوف أو تأنيب الضمير.
ماذا تحقق في سوريا منذ العام 1963، الذي شهد استلام حزب البعث للسلطة في البلاد، بالاستعانة بفرقة من الجيش؟ ألغي الدستور، وحلت السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ونفيت غالبية الطبقة السياسية إلى خارج البلاد، فضلا عن إعلان حال الطوارئ.
السنوات اللاحقة تميزت بالصراع داخل أجنحة البعث المختلفة، انتهت عام 1970 بوصول وزير الدفاع حافظ الأسد إلى السلطة عن طريق ما يعرف بالحركة التصحيحية. وفي عام 1973 أقرّ دستور جديد للبلاد، كرّس نظام الحزب الواحد، باعتبار البعث “قائدا للدولة والمجتمع”.
الآثار البشرية في سوريا تعود إلى 750 ألف عام، تأسست فيها مستوطنات بشرية تجاوز عددها 700 مستوطنة، بعضها لا يزال مستمرا حتى اليوم، كمناطق مأهولة مثل دمشق وحلب، مما يجعل من سوريا مهدا للحضارة البشرية.
فترة زمنية طويلة ستبدو بالمقارنة معها فترة الـ56 عاما، وهي الفترة التي حكم فيها البعث، جرة قلم.
مطلوب منا جميعا أن ننسى آلام الماضي للفوز بالمستقبل، بعدها قد ننجح بوضع دستور جديد للبلاد، أول ما يلغيه هو نظام الحزب الواحد، القائد للدولة والمجتمع. وإن اختار السوريون أن يؤسس كل منهم حزبه الخاص، فليكن لهم ذلك.
ما يحتاجه السوريون اليوم هو نعمة النسيان، قد يكون النسيان، بالنسبة إلى من خسر منزله وتشرد وإلى من فقد ابنا وإلى من تيتم، صعبا، ولكنه حتما أفضل من الإصرار على التذكر.
علي قاسم – كاتب سوري – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة