مشكلة إيران في سوريا أنها لا تثق بأحد إلا من تقوم هي بتصنيعهم ولذلك لم يعد سراً أنها تحاول خلق “ضاحية جنوبية” جديدة في نسخ متكررة حول كل مدينة تحت سيطرة الأسد.
في عزلة
بات المشروع الإيراني أكثر من واضح في البرامج والمراحل، خارج حدود إيران لا داخلها، ويقوم في جوهره على إعادة الدولة العربية في المناطق التي وصلت إليها أذرعه إلى مرحلة ما قبل الدولة، تفكيك المؤسسات، إحلال الميليشيات الطائفية، خلخلة البنى والأنساق الاجتماعية، وأخيراً وليس آخراً بناء جدار عزل ما بين مناطق نفوذها والحاضن العربي الذي يحيط بها.
مصلحة إيران في قطع الطريق على أيّ فرصة لإقامة تفاهم ما بين من باتوا في عداد أتباع خامنئي، والجهات المناقضة لهم والمتخاصمة معهم سياسياً، سواء كانت تلك الجهات محلية أو خارجية، فطهران تؤمن أنها الموكلة باتخاذ القرار الأول والأخير في شؤون المناطق الخاضعة لسيطرتها، وطبيعة مشروعها العدواني لا تتيح إمكانية الحلول الوسط، ولا تفويض الوكلاء حتى وإن كانوا من أشد المخلصين للولي الفقيه وحرسه الثوري.
هناك نظرية تقول إن إيران ومن أجل تذليل المشروع الروسي لإنعاش نظام بشار الأسد قد تضطر لكبح جماح حزب الله اللبناني، غير أن الاثنين الأسد وأمين عام حزب الله حسن نصرالله لا يملكان أيّ حرية في اتخاذ قرار ذاتي بمعزل عمّا يجري التخطيط له في طهران.
وإن كان نصرالله يعارض مد الجسور نحو الأسد، باعتباره عمل طيلة الفترة الماضية على قطع تلك الصلات مع العرب، لاسيما المملكة العربية السعودية، مهاجماً إياها كلما هدأت الأجواء، وكلما حصل تقارب يبشّر بعودة الدعم السعودي للبنان، فهو لا يفعل ذلك من عنده، إنما التزاماً تاماً بتعليمات الإيرانيين التي كلفته بالإشراف على حرب الحوثي ضد السعودية والإمارات واستهدافهما بالمسيّرات والصواريخ.
تستطيع إيران تطبيق مشروع تشيع ممول في بلد صغير كلبنان، لكنها لن تتمكن من فعل ذلك في بلدين بحجم سوريا والعراق
لا حاجة لضبط سلوك حزب الله الذي يجهد لصب الزيت على النار بتحويل سوريا إلى مزرعة حشيش وكبتاغون وإغراق المنطقة العربية والعالم بهما، فهو ينفذ الأجندة الإيرانية بحذافيرها. أجندة ستتكرّر في العراق، حيث تمنع إيران أيّ تمرّد شيعي عربي على سلطة قُم، ساحبة البساط من تحت النجف لتحولها إلى مزار عادي مثله مثل العشرات من المزارات التي أسستها في سوريا واليمن ولبنان، بعد أن كانت النجف مركز الشيعة في العالم وصاحبة السيادة والمرجعية العليا على المذهب وأتباعه.
الأمر ذاته تطبقه إيران على مستوى الحل السياسي في سوريا، فهي المسؤولة كل المسؤولية عن إقناع الأسد باللجوء إلى الحل الأمني الذي قاد إلى تدمير البلاد، لتقطع ليس فقط شعرة معاوية بل كل سبيل للتفاهم وطرق العودة عمّا تمّ ارتكابه في بلاد لا تعنيها إن كانت موحدة أم ممزقة، فالحدود السيادية للدول العربية بالنسبة إلى إيران مجرد خطوط رسمها الشيطان ولا قيمة لها ولا وزن يذكر. لا لأنها تؤمن بوحدة العالم الإسلامي بقدر ما هي تكفر بعالم عربي إلى جوارها يذكرها بهدم عرش كسرى وزوال فارس.
الصراع الإيراني – الروسي داخل سوريا لم يعد يدور على المصالح الاقتصادية والنفوذ داخل المؤسسات وحدها، تجاوز ذلك إلى أن أصبح اللعب على المكشوف. روسيا تريد أن يكون الأسد بديلاً من بدائل حضورها الإشكالي في العالم حالياً، وإيران تريد أن يبقى الأسد في حدود قائد الميليشيا المحظور.
لن تسمح إيران بإعادة دمج النظام السوري في المنظومة العربية، ولا توافق على التقارب التركي معه، وكل ما يقال عن أن الأسد “يكره إيران ويختلف مع أيديولوجيتها الدينية ويشتكي من هيمنتها عليه” يصل إلى مسامع الإيرانيين، فهم لم ينسوا بعد لوالده أنه وضع لهم حدوداً للتحالف في لعبة توازناته مع العالم العربي والغرب. حتى وقوفه إلى جانب الخميني في الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينات القرن العشرين، لم يشفع له ولم يجعل الإيرانيين يثقون بترك القرار لوريثه.
مشكلة إيران في سوريا أنها لا تثق بأحد إلا من تقوم هي بتصنيعهم، ولذلك لم يعد سراً أنها تحاول خلق “ضاحية جنوبية” جديدة في نسخ متكررة حول كل مدينة تحت سيطرة الأسد، ولو أنها كانت مطمئنة إلى وضعها في ذلك البلد، لما حرصت على شراء العقارات وتثبيت ملكيتها لها وعقد الاتفاقات طويلة الأمد مع حكومة الأسد لخمسين سنة قادمة في قطاعات الكهرباء والبنى التحتية، فهي تدرك أنه سيأتي يوم وينقلب عليها رجلها القابع في قصر المهاجرين.
تخشى إيران من مرحلة ما بعد الحرب في سوريا، وتدرك أن أسد ما بعد الحرب لن يكون هو ذاته أسد الحل العسكري الأمني الذي صمّمه له قاسم سليماني.
سيبقى الإيرانيون متمسكين بعزل الأسد، وغمسه أكثر في الملفات التي تدينه وتجعله تهديداً دائماً لمن حوله، وليس شريكاً لا بدّ منه
تواجه إيران في سوريا العديد من المشاكل، فالسوريون على عكس ما يعرفه المنظرون والمؤرخون الإيرانيون، ليسوا حديثي عهد بالتشيع، ولا يمكن قلب مفاهيمهم التي بنيت عبر أكثر من ألف سنة، تطوّرت فيها عقائدهم مروراً بالتشيع ذاته الذي لم تغادر طقوسه حياتهم اليومية وإن كان القالب العام للغالبية السورية طابعاً سنياً. فالتصوف الذي لا تكاد يخلو منه بيت في سوريا يقوم في الأساس على منهج محبة آل البيت وتقديسهم وتخصيصهم بمكانة خاصة في السرديات الشعبية والفكر الأعلى درجة، بعد أن خلّصوه من الثأرية والمعضلات التي ما تزال نسخته الإيرانية عالقة فيها.
حتى الطوائف ذات المنشأ الشيعي في سوريا تختلف مع الإيرانيين ولا ترتاح إلى النمط الذي يقدمونه لها، لا العلويون على استعداد للتحول إلى ملالي ولا الإسماعيليون ولا الموحدون الدروز.
لذلك كله تعمل إيران على نسج مجتمع جديد، لا يختلف بأيّ صورة عمّا جهد من أجل بنائه تنظيم “داعش” الإرهابي ومن بعده جبهة النصرة – تنظيم القاعدة، وكلا المشروعين فشلا فشلاً ذريعاً في ترك أيّ أثر على المجتمع، وبمجرد زوال البنادق زالت العقائد معها وكأنها لم تكن.
تستطيع إيران تطبيق مشروع تشيع ممول في بلد صغير كلبنان، لكنها لن تتمكن من فعل ذلك في بلدين بحجم سوريا والعراق، ولا يكاد شيعة لبنان يمثلون مقدار سكان ريف مدينة واحدة من مدن هذين البلدين الكبيرين، ففي لبنان يقدّر عدد الشيعة حتى العام الحالي 2022 بحوالي مليون وثمانمئة ألف نسمة، لم تجنّد إيران حتى عُشر هؤلاء. ولا يفضح أحد هذا كما يفضحه حسن نصرالله حين يتحدث عن عدد مقاتلي حزب الله الذي يباهي بأنه 100 ألف مقاتل.
تقدّر التقارير الاقتصادية أن إيران أنفقت في سوريا ما وصل إلى 30 مليار دولار منذ العام 2011، ليس في برامج مرشدها استردادها مباشرة “كاش”، بل عبر تحويل تلك المليارات إلى أرصدة بشرية ومساحات نفوذ إمبراطوري، فنقطة ضعفه أنه يعيش في زمن مختلف عن الزمن الذين يعيش فيه خبراء خامنئي ومستشاروه.
مع الوقت لن تتمكن روسيا من مواصلة هذا الصراع، ستكتفي بالبقاء لتركه في حالة توتر متواصلة، كما لن تتمكن إيران من حسمه لصالحها، أما الشهية العربية والإقليمية للتطبيع مع الأسد فهي ليست أكثر من رغبة بالدخول في هذا النزاع والتحول إلى لاعبين فيه للتأثير في أطرافه.
روسيا فعلت ذلك من قبل، في دخولها إلى الساحة السورية تمكنت من التحول إلى شريك رسمي للولايات المتحدة في حماية أمن إسرائيل، وشريك للعرب في حماية أمنهم القومي. بعد أن تم إبعادهم عن سوريا بشكل ممنهج وعلني، لعزلهم عما يدور فيها، فتم خلق معادلات مصالح متشابكة ومتناقضة، تعارضها وتضادها يبقيانها أكثر جدوى من حلها، وإلى أن تنهار تلك المعادلات، سيبقى الإيرانيون متمسكين بعزل الأسد، وغمسه أكثر في الملفات التي تدينه وتجعله تهديداً دائماً لمن حوله، وليس شريكاً لا بدّ منه.
إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة