«نيسان أقسى الشهور» بهذه الجملة يفتتح الشاعر ت. إس. إليوت قصيدته المشهورة: «الأرضُ الخراب». وشهر نيسان، من جهة أخرى، علامة على فصل الربيع. والربيع مفرد بذاكرة بعيدة عن القسوة والألم، وشديدة الصلة بالبهجة والفرح. لكن شهر أبريل (نيسان) يحتل مكانة مميزة في الذاكرة الليبية، تتسق تماماً مع مفتتح قصيدة إليوت أعلاه. أو على الأقل، ظل على ذلك النحو من القسوة، إلى أن أُسدلَ الستارُ نهائياً على حكم الديكتاتور معمر القذافي.
نحن الآن في شهر أبريل، وعلى وشك توديعه واستقبال ما بعده من شهور، لكنه، هذا العام، مرّ في ليبيا بهدوء لافت ومريب، وبدا لي وكأن اللامبالاة متعمدة. ربما يعود ذلك لتزامنه مع شهر الصيام. أو ربما لأن الليبيين تعمدوا عدم الالتفات إليه، بهدف نسيان آلامه ومواجعه. أي إنهم لجأوا إلى قمع ذاكرة سنوات القمع لنسيان القمع. أو ربما لأن مواجعهم الحالية لا تقل ألما وقسوة عما قاسوه في الماضي، وبالتالي، لم يتوفر لديهم وقت للالتفات إلى الخلف.
البداية التي تؤرخ لعلاقة الليبيين بأقسى الشهور، بدأت في شهر أبريل عام 1976، حين تمكن النظام العسكري، عن طريق أزلامه في الجامعات من إجهاض الحركة الوطنية الطلابية، والقضاء عليها، بعد معارك شرسة بدأت منذ عام 1974. عقب ذلك بقليل، ظهرت مقولة ظل يرددها أعضاء اللجان الثورية: «كل ليلة هي ليلة الفاتح، وكل يوم هو يوم السابع من أبريل». بليلة الفاتح، كانوا يقصدون ليلة الانقلاب العسكري المشؤوم، في الفاتح من سبتمبر (أيلول) 1969.
بعد القضاء على الحركة الوطنية الطلابية في الجامعات الليبية في بنغازي وطرابلس، التفت العقيد القذافي إلى بقية الفئات الوطنية في القطاعات الأخرى، واحدة تلو أخرى، حتى خلت له الساحة. ومنذ ذلك العام 1976، تحول شهر أبريل إلى أقسى الشهور، حسب وصف الشاعر الأنجلو أميركي ت. إس. إليوت. وصار يعرف في ليبيا باسم شهر الدم، وشهر المشانق.
مع بداية شهر أبريل، من كل عام، كان رأس النظام وأزلامه يصابون بنوبة سعار دموية. وكان اقتراب الشهر مبعث خوف في كل الأوساط، إذ لا أحد يدري من سيكون الضحية، أو الضحايا. في السابع من أبريل، من كل عام، كان أعضاء اللجان الثورية، يبدأون طقوسهم السنوية بنصب مشانق سريعة في ساحات الجامعات، أو في الميادين العامة. وبعدها يقيمون محاكم ثورية سريعة، ويأتون بمتهمين من الطلبة، ويصدرون عليهم أحكاماً بالموت شنقاً بتهمة الخيانة. ويخرجون بهم سريعاً إلى حيث تنتظرهم المشانق، ويعلقونهم وهم يهتفون: «شنقاً في الميدان لا نرحم من خان».
حتى وإن لجأ الليبيون إلى النسيان هرباً من آلام تلك الأعوام، إلا أن التاريخ لا ينسى، خاصة تلك المشانق التي نصبت خلال أيام شهر رمضان في الثمانينيات. كانوا يشنقون خصومهم في الميادين العامة. ولدى ساعة الإفطار، كانوا يحرصون بتقصد على عرض المشانق، وقد تدلت منها الجثث في التلفزيون. وكأنهم كانوا يتلذذون بذلك.
وحين انتهوا من الطلاب، لجأوا إلى السجون. فكانوا يقتحمون الزنازين ليلاً، ويسحبون من يريدون من السجناء، ويهرعون بهم جرياً إلى الساحات، ويعلقونهم نهاراً في المشانق، من دون حتى محاكمة صورية. وكل ذلك كان يحدث في شهر أبريل.
وأذكر أنني كنت سجيناً محكوماً بالسجن المؤبد، مع عدد من الصحافيين والكُتّاب. وعرفنا بعد انهيار النظام في عام 2011، من خلال ما ظهر من وثائق، أن اللجان الثورية الفاشية، عصا النظام، قامت بعقد محكمة ثورية، ومن خلالها بدلت حكم المؤبد الصادر ضدنا إلى حكم بالإعدام. ولم يتم إبلاغنا بذلك، لحسن الحظ. ويبدو أنهم كانوا يعدون العدة للتضحية بنا قرباناً للشهر الدموي، إلا أن لطف الله تدخل، ولم يتم تنفيذ الحكم. وبدلاً من ذلك، أُفرج عنا في مارس (آذار) 1988.
فما الذي جعل النظام، يختار شهر أبريل من بين كل شهور العام، ويحيله إلى شهر دم ومشانق؟ وكيف ينسى أو يتناسى الليبيون تلك السنوات المريرة؟
يوم الجمعة الماضي، وافق يوم 7 أبريل. لكن الذكرى مرت من دون ضجيج، حتى في وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أثار استغرابي. هل قصد الليبيون تجاهل تلك الذكرى، أم أن انشغالهم بالصوم، وبالأوضاع التي يعيشونها منذ عام 2011 كان السبب وراء ذلك؟
جمعة بوكليب – كاتب ليبي – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة