موسكو لن تقدم ضمانات للأسد في البقاء على رأس السلطة إلى الأبد وإنما تعهدات بأن تبقى الأزمة السورية خامدة حتى يحين الوقت لحلها بأقل الأضرار الممكنة له ولنظامه.
بعد سنوات ثمان عجاف يزور وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف دمشق. لا يحمل لافروف بجعبته حلولا للأزمة السورية، وإنما قواعدَ توطيد استقرار بلاده على سواحل المتوسط. فقد حان الوقت لوضع النقاط على الحروف، وحسم الخلافات بشأن الإقامة الروسية الدائمة في سوريا.
رأس الدبلوماسية الروسية يصل والأزمة السورية خامدة منذ نحو عام تقريبا. لا أحد يريدها اليوم أن تتفجر. الأطراف المحلية والدولية منشغلة بقضايا أخرى أكثر أولوية الآن، ولا ضير من استغلال هذا الوقت لترتيب البيت الداخلي في بعض التفاصيل التي يصعب إنجازها تحت وطأة الحرب.
لافروف يريد أن يبدأ الحضور الروسي الفعلي في سوريا بمجالات الاقتصاد والأعمال والثقافة والتعليم والدين، كما هو الحال في القطاع العسكري. ليس هذا فقط وإنما يريد أن يصبح هذا الحضور طاغيا بشكل واضح مقارنة مع أي طرف أجنبي آخر على قائمة حلفاء دمشق، وعلى الأخص إيران.
للروس شروط يجب على دمشق تنفيذها. وهم اليوم البوابة اليتيمة للنظام إن أراد الخروج من أزماته الاقتصادية والسياسية. لن تقدم موسكو ضمانات للأسد في البقاء على رأس السلطة إلى الأبد. وإنما تعهدات بأن تبقى الأزمة خامدة حتى يحين الوقت لحلها بأقل الأضرار الممكنة له ولنظامه.
يفضل الجميع الخمود. الأتراك منشغلون بصراعهم مع الأوروبيين. والولايات المتحدة معطلة إلى حين انتهاء انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل. وهو ما تنتظره إيران أيضا لأنه يحدد سلوكها في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع المقبلة. حالها في هذا حال العديد من دول العالم شرقا وغربا.
بالنسبة للأطراف السورية، فإن الأزمة الخامدة تبقى أفضل من أي حراك سياسي أو عسكري يهدد مكتسباتها الحالية. النظام يحلم باستمرار هذا الهدوء النسبي للأبد. وجبهات المعارضة، كل على حدة طبعا، يستغل الهدوء ذاته من أجل ترسيخ واقع الحال الذي ينعم بالنفوذ في ظله اليوم.
الكرد في شرق الفرات يعقدون الصفقات السياسية والاقتصادية مع الداخل والخارج. ومعارضو أنقرة يستمتعون بنصفهم التركي ونصفهم السوري. أما بقية أفراد الجوقة فقد تصالحوا مع معارضتهم عبر وسائل التواصل والفضائيات، مع لقاءات متفرقة في جنيف أو غيرها بين الحين والآخر.
الوحيدون الذين يريدون أن تنتهي الأزمة هم سكان المخيمات ومراكز الاحتجاز في دول الجوار والعالم. هؤلاء من تمر الأيام عليهم ثقيلة وغليظة، وكل يوم يقتطع من حياتهم جزء من حلم العودة إلى حياة طبيعية. ولكن للأسف لا صوت لهؤلاء، ولا حيلة لهم في ما جرى ويجري وسيجري.
ثمة في الداخل من يريد إنهاء الأزمة أيضا. هؤلاء الذين لم يستفيدوا من النظام يوما، ولم يتحولوا إلى تجار أو أمراء حرب بعد عام 2011. السوريون الذين يعيشون تحت وطأة الفقر والحاجة ويشاهدون بمرارة مستقبل أولادهم وهو يتشوه يوما بعد يوم، نتيجة تراجع العلم والأخلاق والاقتصاد.
المضحك المبكي أن المستضعفين في الداخل والخارج يحضرون دائما في الخطب والبيانات والمؤتمرات الصحافية. لم يغفل الوزير الروسي الحديث عنهم مرة أمام وسائل الإعلام، ولكن في الأروقة المغلقة مع الأسد أو غيره، ربما لا يأتي على ذكرهم. فهم خارج قائمة أولويات بلاده اليوم.
قد يعتقد البعض أن تبادل أطراف الحديث بين الأسد وضيفه الروسي بشأن اللجنة الدستورية هو من أجل السوريين المتضررين في الأزمة. وهو أمر حقيقي لو أن الروس فرضوا على “الرئيس” الحد الأدنى من الجدية في التعامل مع اللجنة. وهو الحد الذي يعترف فيه بوفده المفاوض في جنيف.
لا يستعجل الروس أبدا إنجاز اللجنة الدستورية لعملها لأن ذلك يعكر صفو الأزمة الخامدة. وهم قبل ذلك يعرفون حق المعرفة، أن هذه اللجنة لن تستقيم في عملها طالما أن الكرد وكلاء أميركا في سوريا لا يحضرون على طاولتها، وأن مناطق الأتراك في الشمال لن تعود بدستور جديد للبلاد.
ما يهم الروس اليوم هو تلك الملفات الاقتصادية والعسكرية التي ترسم محددات وتجليات حضورهم الدائم في سوريا. وتلك النقاط التي تجعل من هذا الحضور أكثر ضررا لإيران، وأكثر منفعة لأميركا. ليس فقط من أجل إسرائيل، وإنما لأن طهران تنافس موسكو أكثر من واشنطن وأنقرة في سوريا.
بات الروس يعرفون ماذا يريد الأميركيون في سوريا. ويعرفون أيضا متى وكيف يريدون الوصول إليه. لن تبخل موسكو على واشنطن في التفاهمات، وهما اليوم لبعضهما أقرب من أي وقت مضى. وإن بقي ترامب في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، ربما لن يثور بركان الأزمة السورية أبدا مجددا.
بهاء العوام – صحافي سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة