عشرون عاما كشفت فشل الاستراتيجية الأميركية التي أرادت من خلال عقابها لطالبان أن تحوّل وجودها العسكري في أفغانستان إلى قاعدة استراتيجية تحاصر الروس وتوقف تعاونهم العسكري المتنامي مع إيران.
محاولة تقديم خطاب معتدل
ليست مفارقة سياسية حين يكون اسم الدبلوماسي الأفغاني البشتوني الأميركي زلماي خليل زادة هو العنوان المشترك لاحتلال الولايات المتحدة لكل من أفغانستان 2001 والعراق 2003، وليست مبالغة القول إن زلماي كان الطباخ الحريص على معرفة مذاق طبخته عن قرب بعد إنجازها عبر احتلال غاشم وقتل مئات الألوف من الأبرياء في كل من العراق وموطنه الأصلي أفغانستان فيصبح سفيرا في كابول بعد احتلالها وكذلك في بغداد بعد احتلالها، لكن ذلك المذاق كان مرّا.
ها هو زلماي خليل زادة يهندس هزيمة أميركا في أفغانستان في اتفاقية الدوحة في 29 فبراير 2020 وواصل خلال عام محاورته طالبان للخروج الأميركي الآمن بعد عشرين عاما من طرد طالبان عام 2001 حين أدانتها إدارة بوش بمساعدة واحتضان زعيم القاعدة أسامة بن لادن وقيادات وكوادر التنظيم الذين فجروا مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001.
غبطة الأفغانيين بالحرية الزائفة والتحرر من قسوة المتطرفين الذين نظموا صفوفهم وتوعدوا بالعودة رغم قسوة الأميركان في التقاط قادتهم بالطائرات المسيّرة لم تستمر
قرار الحرب على أفغانستان لم يكن ضمن الاستراتيجية الأميركية بل جاء ردا ثأريا على مسؤولية حكام طالبان. إنه أشبه بتورط رئيس النظام العراقي صدام حسين بحرب الثماني سنوات. لقد تورطت واشنطن في أفغانستان ثم هزمت بعد عشرين عاما. كان احتلال العراق هو الهدف الرئيسي في مشروع مجموعة اليمين المتطرف “القرن الأميركي الجديد” قبل وصول بوش الابن للرئاسة. وزلماي خليل زادة كان واحدا من الأعضاء النشطين في ذلك المشروع مع ديك تشيني ودولاند رامسفيلد وبول ولفويتس وكونداليزا رايس التي دائما ما وصفت زادة بـ“الملك زاد”.
في عام 1998 بعث أعضاء هذا المشروع إلى الرئيس بيل كلينتون رسالة قالوا فيها “إن سياسة احتواء النظام العراقي بدأت بالتآكل بشكل خطير بحيث لم يعد بإمكاننا الاعتماد على شركاء تحالفنا في حرب الخليج للاستمرار بالتزام الحضر المفروض على العراق، وإن ذلك يشكل خطرا كبيرا على أصدقائنا كإسرائيل والدول العربية المعتدلة” وختموا الرسالة بمطالبة كلينتون بإزاحة النظام العراقي بأي شكل من الأشكال.
أما في أفغانستان فوقائع التاريخ تؤكد دعم الولايات المتحدة للحركات الأفغانية المسلحة ضد الغزو السوفييتي عام 1989-1979 كانت حركة طالبان في تلك الأيام ناشئة، لكن الرعاية الأميركية وضعتها في مقدمة تلك الحركات الإسلامية. ركبت إيران الموجة في دعم سياسي مُبّطن لطالبان قبل استلامها للسلطة في كابول عام 1996 رغم خلافها العقائدي معها. معروف أنها تتعاون مع الحركات الإسلامية “السنيّة” بما يخدم مصالح أمنها الوطني. اعتقد النظام الإيراني أن ذلك يساعد شيعة الهزارة في أفغانستان على ترتيب مواقع قدم لهم في المستقبل، اليوم بعد عودة طالبان ستواجه طهران وضعا صعبا تصبح فيه داخل كماشة الخليج وأفغانستان.
من يقرأ وقائع أصداء الأيام العصيبة التي مرت بها الولايات المتحدة بواقعة الحادي عشر من سبتمبر والإدانة التي وجهت إلى تنظيم القاعدة المحمي من حكم طالبان يكتشف حقيقة لعب النظام الإيراني الخبيث في كيفية تعامله المبطن مع الغرب والولايات المتحدة. استغلت طهران حادثة الحادي عشر من سبتمبر لتنافق واشنطن والغرب غير مكترثة بتخليها الفعلي عن شعارها “الموت لأميركا”. بعد أسبوع من الواقعة قام الرئيس الإيراني محمد خاتمي بزيارة واشنطن مما دعا وزير الخارجية الأميركي كولن باول ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير للاتصال به ترحيبا لدرجة أن صحيفة صنداي تايمز البريطانية قالت إن إيران بعد هجمات 11 سبتمبر تحولت من دولة تعتبرها الولايات المتحدة أكثر الدول نشاطا في دعم الإرهاب إلى حليف محتمل.
النظام الإيراني قدم لواشنطن عروضه اللوجستية لمساعدتها في احتلالها لأفغانستان رغم صلته الإيجابية بحركة طالبان، مثل رعاية الجنود الأميركيين الجرحى الذين اضطروا إلى الهبوط في الأراضي الإيرانية خلال العمليات العسكرية، وقدم المعلومات الاستخباراتية مقابل منع إدارة بوش جماعات أميركية تقديم شكوى ضد إيران حول قضية احتجاز الرهائن عام 1979 والمطالبة بتعويض يصل إلى 10 مليارات دولار.
الشيء نفسه حدث في الحالة العراقية، ادعى نظام طهران في إعلامه أنه ضد الولايات المتحدة وعقوباتها في حصار العراق وآوى كذبا طائراته العسكرية التي صادرها في ما بعد لكنه نسّق سرّا مع المسؤولين الأميركان لتسهيل مهمات احتلالهم، أكدت هذا الأمر مذكرات زلماي خليل زادة.
محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني محمد خاتمي أكد في محاضرة له بمركز الإمارات بدبي بتاريخ 13 يناير 2004 “لولا إيران لما تمكنت أميركا من احتلال العراق وأفغانستان” نفس العبارة كررها في ما بعد الراحل هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام.
كانت صدمة طهران كبيرة فلم تقدم لها واشنطن مكافأتها في أفغانستان، يبدو أنها كانت تحتفظ لها بالهدية الأكبر في العراق. نصبّ زلماي خليل زادة خلال مؤتمر “اللويا جيرغا” حامد كارزاي رئيسا للحكم الجديد ووزع المناصب حسب حجم النفوذ القبلي. كانت حصة الهازار الشيعية ثلاث وزارات خدمية حسب حجمها الحقيقي. وهو بذلك كان منحازا للبشتون والطاجيك. لم يكرر هذه النزعة في توزيع حصص مؤتمر لندن للمعارضة العراقية حين جعل للأحزاب الشيعية المكانة الأولى في حكم ما بعد صدام لأن المشروع الاستراتيجي كان هدفه تدمير العراق وخرابه.
حكمت طالبان أفغانستان لخمس سنوات عجاف 2001-1996 طبقت خلالها شريعة التطرف الإسلامي بعد طرد السوفييت في هزيمة تاريخية كانت أقسى من هزيمة الولايات المتحدة عام 2021. كانت فترة قاسية في فرض طقوس لا علاقة لها بدين الإسلام الحقيقي. منعت جميع مظاهر المدنية الاجتماعية والثقافية ودخلت البلاد في عزلة عن العالم. زاد فقر الناس وهجرتهم للخارج. تحاول طالبان اليوم تقديم خطاب معتدل.
بعد عشرين عاما من تجربتي الاحتلال في أفغانستان والعراق، ماذا جنت الولايات المتحدة على المستوى الاستراتيجي وسمعتها العالمية؟
في كابول صنعت من أمراء الحرب حكومات ضعيفة أشاعت الفوضى والفساد الإداري والمالي بدل الأمن والرخاء والاستقرار. كان قادة الجيش الجديد يقبضون الأموال ولا يصرفونها على أفراد الجيش. كانوا يبيعون السلاح لمقاتلي طالبان وأمراء الحرب. أظهر قادة أفغانستان ما بعد طالبان أنهم فاقدون السيطرة على إقامة دولة وطنية بعد الانسحاب الأميركي، فذاب خلال ساعات أكثر من 300 ألف جندي أفغاني.
لم تستمر غبطة الأفغانيين بالحرية الزائفة والتحرر من قسوة المتطرفين الذين نظموا صفوفهم وتوعدوا بالعودة رغم قسوة الأميركان في التقاط قادتهم بالطائرات المسيّرة. اختار بعض مقاتلي أفغانستان المدعومين من طهران أن يتحولوا إلى مرتزقة تحت عنوان “فاطميون” للقتال في سوريا تحت إمرة فيلق القدس. والآخرون نظموا صفوفهم مجددا مع طالبان رغم جراحها النازفة.
عشرون عاما كشفت فشل الاستراتيجية الأميركية التي أرادت من خلال عقابها لطالبان أن تحوّل وجودها العسكري في هذه المنطقة الحيوية إلى قاعدة استراتيجية تحاصر الروس وتعاونهم العسكري المتنامي مع إيران وتوقف نمو الصين. اعتقدت واشنطن أنها نجحت في إنشاء وجود عسكري لها للمرة الأولى في آسيا الوسطى للسيطرة على بحر قزوين على غرار ما فعلته في الخليج العربي. ثم تعلن إدارة بايدن اليوم بأن انسحابها من العراق وأفغانستان هو للتفرغ لمواجهة المخاطر الاستراتيجية للصين وروسيا، أي تغطية غير مقنعة على الهزيمة والفشل هذه.
المثل العراقي على مقدار الفشل الكبير والهزيمة الأميركية التاريخية، أكثر وضوحا، ليس على لسان مزدوجي الولاء والتبعية، وبعضهم اليوم يدّعي عداء الولايات المتحدة من أنصاف السياسيين الموالين لطهران الذين حكموا العراق باسم الإسلام الشيعي. كانت النتيجة قتل الناس الأبرياء ومصادرة حقوق وممتلكات الأحياء. خراب ودمار ونهب المليارات من الدولارات تحت فتوى شيعية بأنه حلال أخذ مال الدولة لأنه مال مجهول المصدر.
فشل مشروع الاحتلال الأميركي لأن هندسة النظام البديل التي بشّر بها الطبّاخ والمهندس زلماي خليل زادة كانت خطيرة ومدّمرة للعراق دولة وشعبا. كانت هندسة مصرّة على تقسيم شعب العراق إلى مكونات ذات أوزان عددية. لم يُحصِ العراقيون أنفسهم يوما على أساس شيعي وسني وكردي وتركماني ومسيحي ومسلم، لكن الأخطر كان انسحاب الأميركيين من الساحة العراقية بعد تسليمهم البلد لإيران واهمين أنها نهاية القصة.
في أفغانستان كان بديل الاحتلال موحّدا، هو طالبان. في العراق إذا ما انسحبت الولايات نهائيا ستكون هناك انقسامات مسلحة وتفرض طهران إرادتها من خلال الميليشيات بالقوة. هناك خوف عام لما قد يحصل على الأرض العراقية خلال الأيام المقبلة.
الرئيس بايدن الماسك السابق للملف العراقي، كان قد وضع الحل عندما قال: لا يبقى العراق موحدا. فهل سيتحقق ذلك؟
إلى هذه اللحظة مازال الحل بيد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بحل البرلمان وإقامة حكومة طوارئ مع رئيس الجمهورية.
هل المسؤولون الأميركيون نادمون على هذه النتيجة؟ الديمقراطيون ليسوا كذلك، وإن كان هذا الملف سيتفاعل في تصاعد المنافسة الحزبية. لكنهم مجمعون على أنهم لا يريدون استمرار وظيفة رضاعة السياسيين الفاشلين الذين نصبوهم في كل من أفغانستان والعراق. لكنها ذريعة لا يقبلها التاريخ ولا العدالة ولا المنطق.
هل الأفغاني البشتوني الأميركي زلماي خليل زادة حزين وهو يتطلع على المشهد بعد خروجه منه؟ لا أعتقد ذلك، فهو منشغل بإدارة شؤونه التجارية وكتابة مذكرات جديدة.
د. ماجد السامرائي – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة