الحقيقة التي اعترف بها الجميع أن الفراغ لن يملأه إلا من امتلك إرثا سياسيا ووطنيا كسعد الحريري الذي أصبح قائدا عابرا للطوائف قادرا على جمعهم تحت مظلة تخرج لبنان من أزماته.
إرث عابر للطوائف
لعل أهم ارتدادات حرب غزة الحالية على منطقة الشرق الأوسط تتلخص في مشاهد تنطوي تحت عنوان تقزيم حجم أدوات المحور الإيراني وقدراته في العراق وسوريا واليمن ولبنان، هذه الأدوات التي تتلاعب بمصير شعوب المنطقة جمعاء، انطلاقا مما أُعلن عنه من مبدأ توحيد الساحات والرد العسكري ضد مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما في الغرب، في مغامرات عسكرية غير محسوبة قائمة على رفع وتيرة التصعيد أو ما يسمّى بتسخين هذه الجبهات، بناء على ضوء أخضر إيراني مدعوم بصمت سلبي من قوى المعسكر الشرقي (روسيا والصين) أملاً في أن تتوحّل الولايات المتحدة مجددا في مستنقع صراعات الشرق الأوسط اللامتناهية.
الضربات العسكرية الأميركية، وإن كانت محدودة الأثر والتأثير من واقع عدم قضائها على القدرات العسكرية لأدوات المحور الإيراني في المنطقة، فإنها تعكس جدية أميركية مدعومة من قوى عربية في المنطقة للحد من هذا القدرات، وتحجيم صورتها أمام شعوب المنطقة التي بدأت تدرك حقيقة عجز خطاب الديماغوجيا لأقطاب هذا المحور، الذين أعادوا حساباتهم أمام الموقف العسكري الأميركي والإسرائيلي الذي يوجه لهم الصفعات يوم بعد آخر.
◙ اليوم ليس كالأمس، والظروف التي صرح بها بإعلان التعليق قبل عامين بسبب تأثير حزب الله وسطوة الحرس الثوري الإيراني على المشهد السياسي اللبناني، انقلبت في مشهد دراماتيكي بسبب الحرب في قطاع غزة
مجددا، مكانة أدوات هذا المحور وشعبية أقطابه اهتزت لأسباب عديدة تنصب في نقطة سياسية واحدة أن هذه الميليشيات لا تمتلك قرارها للخوض برد فعل واسع النطاق، وبالتالي لا تمتلك القدرات أو الإمكانيات التي تؤهلها لمجابهة الرد العسكري الأميركي أو حتى الرد على اغتيالات طالت قادتها، ونفذتها دولة الاحتلال الإسرائيلي على أراضي دولهم.
نتلمس مما سبق بدء وضوح تأثير ذلك على شعبية هذه الميليشيات التي تراجعت مكانتها، وانعكاس ذلك مستقبلا على الصراعات السياسية في دولها، ولعل أبرز هذه الميليشيات الإيرانية؛ حزب الله في لبنان، فالحزب مرآة هذه الميليشيات في الشارع العربي والمنطقة عموما.
اليوم، تطفو على السطح حقيقة تدني شعبية حزب الله في الشارع اللبناني لمعطيات سياسية واقتصادية جمة، فسلسلة الأزمات التي جرت منذ بدأ عهد الرئيس ميشيل عون وما تلاها من محاولات الاستقواء بالدعم الإيراني مرورا بتدهور الأوضاع الاقتصادية لشرائح المجتمع، وصولا إلى حرب غزة وارتداداتها على ما يدور في جبهة جنوب لبنان، نفضت عن الحزب المتلفح بطائفته الحالة الشعبية التي كان يراهن عليها، فانعكس ذلك على مجمل النخب السياسية التي تحالفت معه أو انساقت في فلكه السياسي، والتي تدرك اليوم أن حزب الله أغرق السفينة اللبنانية بأمواج الإقليم المتلاطمة بل وأدرك الشعب ونخبه حاجة لبنان لعودة ربان انكفأ على نفسه.
الأصوات تعلو وتصدح في الشارع اللبناني بضرورة عودة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، في حالة مماثلة لماضي أبيه الذي أخرج لبنان من ركام الدمار، ومثّل الأمل والبناء والنهضة بعد سنوات الحرب الأهلية.
لا شك، أن الحريري مطالب اليوم بإعادة النظر بقرار تعليق عمله السياسي في الحياة العامة اللبنانية، بعيدا عن الأسباب الموجبة التي جعلته يلجأ إلى هذا القرار الذي ما زال تأثيره الصادم يلقي بظلاله على المشهد السياسي الفارغ منذ ذلك الوقت.
◙ الضربات العسكرية الأميركية، وإن كانت محدودة الأثر والتأثير من واقع عدم قضائها على القدرات العسكرية لأدوات المحور الإيراني في المنطقة، فإنها تعكس جدية أميركية للحد من هذا القدرات
فالحقيقة التي اعترف بها الجميع من خصوم الرجل قبل مؤيديه، أن الفراغ لن يملأه إلا من امتلك إرثا سياسيا ووطنيا كسعد الحريري، الذي أصبح قائدا عابرا للطوائف اللبنانية، قادرا على جمعهم تحت مظلة سياسية هي “الحريرية” لتخرج لبنان من أزماته المتمثلة في حالة اختطاف قراره السياسي والاقتصادي والأمني من حزب يرتهن بقرار النظام الإيراني وحرسه الثوري.
اليوم ليس كالأمس، والظروف التي صرح بها بإعلان التعليق قبل عامين بسبب تأثير حزب الله وسطوة الحرس الثوري الإيراني على المشهد السياسي اللبناني، انقلبت في مشهد دراماتيكي بسبب الحرب في قطاع غزة وانخراط الميليشيات التابعة للنظام الإيراني في موجات تصعيد إقليمية استهلكت من رصيد الحزب ونفوذه، مما سيؤدي حتما إلى تقزيم أدواره على الساحة اللبنانية.
ومن هذا المنطلق، يتطلب الواقع عودة سعد الحريري كمصلحة لبنانية وإقليمية ودولية، ولكي يكون هذا المقال موضوعيا في ما يطرح هناك مصلحة ملحة لدور عربي داعم للحريرية السياسية بقيادة المملكة العربية السعودية، المطالبة أيضا بإعادة النظر في مقاربتها السياسية بشأن لبنان، والعودة إلى دعم فكر وسياسات تنهض بشعوب المنطقة ودولها ضمن رؤى إستراتيجية مضادة لأجندات إيران وسياساتها التي تسللت في غفلة من الزمن لتغرق دولا في الفقر والبطالة والفوضى والتخلف كأسس لبناء نفوذها وسطوتها.
حميد قرمان – صحفي وكاتب سياسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة