في ضوء ما مر من أحداث هزت سوريا ولبنان والمنطقة وأعادت طرح الإشكالات البنيوية للدول في المشرق العربي تعاد مسائل مثل مدى مسؤولية عهود الانتداب في خلق حدود غير ملائمة.
التقسيم من أخطاء السياسة الفرنسية
يناقش أحد العقول السياسية البريطانية التي انخرطت في السياسات الغربية للمشرق العربي وتابعت بتعقل نتائج تلك السياسات، وهو ستيفان هامسلي لونغريغ في كتابه حول سوريا في عهد الانتداب الفرنسي، السياسةَ التي انتهجتها فرنسا بعد سيطرتها على سوريا في عام 1920 بخصوص تقسيم البلاد إلى خمسة كيانات صغيرة، فيخلص إلى أن ذلك التقسيم كان من أخطاء السياسة الفرنسية الكبرى التي أجبرت فرنسا على دفع ثمنه غاليا قبل التراجع عنه مضطرة بعد اتضاح فشله.
وفي حين كان الدافع الحقيقي للتقسيم هو إحكام السيطرة على سوريا وفق قاعدة “فرّق تسد” لكنه حاول الاستناد إلى مظاهر الاختلاف المناطقي والطائفي، وتعظيم قيمة تلك الاختلافات إلى درجة أهمل معها العوامل المشتركة التي تفوقها أهمية والمتمثلة في اللغة والثقافة والعادات الاجتماعية، كما أهمل الاعتماد المتبادل للسكان في حركتهم واقتصادهم فيما بين تلك الدول المصطنعة، بحيث لم يولد فقط نقمة نابعة من الحس الوطني العام المؤمن بوحدة سوريا وإنما أساء أيضا إلى مصالح السكان الاقتصادية والمعيشية، وجعل حياتهم أكثر صعوبة ووضع عراقيل جدية أمام تطور الاقتصاد.
◙ إذا كان متعذرا الآن في خضم الأزمات الداخلية لكل دولة التفكير في تلك الحدود غير الملائمة، فإن ما هو ملح وضروري الاتعاظ بالتجربة التاريخية تجاه أي تفكير انفصالي جديد
وحتى في حالة لبنان فقد كان من الخطأ مسايرة البطاركة المارونيين الطاعنين في السن الذين ألحوا على استقلال لبنان استقلالا تاما ضد رغبة الغالبية الكبرى من المسلمين في طرابلس وبيروت والبقاع وأنحاء أخرى من لبنان، وأن حكما ذاتيا للبنان يضمن حرية المسيحيين وأمنهم ضمن دولة سورية واحدة كان كافيا لمواجهة الهواجس التاريخية لفئة صغيرة من السكان لا تصل إلى 1 في المئة من مجموع سكان سوريا في ذلك الوقت.
وقد ظهر الاستعجال وانعدام الحكمة في قرار فصل لبنان بصورة تامة مبكرا عندما توافق مجلس إدارة جبل لبنان وغالبيته من الموارنة على الذهاب إلى دمشق في أواخر عهد الحكومة العربية قبل الانتداب الفرنسي، ومقابلة الملك فيصل والاتفاق معه على صيغة مختلفة لعلاقة لبنان مع سوريا تضمن المصالح الاقتصادية وبقاء الصلات الحيوية مع دمشق وتقترب من الاتحاد الكونفدرالي. وحين اكتشف الحاكم الفرنسي في لبنان ذلك اعتقل أعضاء المجلس وحاكمهم متهما إياهم بالتخابر مع حكومة دمشق بصورة غير مشروعة وحكم عليهم بالنفي خارج البلاد.
ولا شك أن لبنان حالة قصوى بالنسبة إلى نزعة الانفصال ضمن المجتمع السوري، أما الحالات الأخرى فقد أثبتت الأحداث أنها لا تستطيع الصمود أمام الرياح القوية التي هبت باتجاه الوحدة السورية.
ويشرح الكاتب والمؤرخ البريطاني أن تقسيم سوريا لم يكن محاولة فاشلة في النهاية فحسب ولكنه ولد مشاعر قوية معادية للانتداب كان يمكن تفاديها وبالتالي ساهم في المصاعب الكبيرة التي واجهت السلطة الفرنسية وأدت في النهاية إلى فشل تجربتها في سوريا وخروجها من البلاد مع أقل قدر من بقاء المشاعر الودية مع الشعب السوري.
كتب لونغريغ: “في عهد فيصل كانت الصيحة الأعلى التي عبر عنها الأهالي (باستثناء قسم من الأقليات) هي صيحة الوحدة، وكان تجاهلها بمثابة تجاهل القوة السياسية المرئية الأقوى، وتجاهل الطابع العربي أساسا للأهالي في لغتهم وثقافتهم وطريقة عيشهم، وقد كان هناك سبب قوي أو طاغ في تموز/ يوليو 1920 (يقصد بعد دخول الفرنسيين دمشق) للقبول (وكمصدر قوة فعال وذي قيمة كبرى) بمفهوم الدولة السورية الموحدة التي قامت في ظل فيصل، دولة قادرة على الحياة اقتصاديا، ومزودة بمنافذ بحرية ملائمة، وقادرة على التحول بعد مدة إلى نظام مكتف على نحو مقبول”.
◙ حتى في حالة لبنان فقد كان من الخطأ مسايرة البطاركة المارونيين الطاعنين في السن الذين ألحوا على استقلال لبنان استقلالا تاما ضد رغبة الغالبية الكبرى من المسلمين في أنحاء لبنان
هكذا يشرح لونغريغ أنه كان يفترض بالفرنسيين لو امتلكوا شيئا من الحكمة وبعد النظر أن يفسحوا الطريق لتلك الرغبة العارمة لدى الأغلبية الساحقة من الشعب السوري في الوحدة السورية وفق تصور الدولة السورية في العهد الفيصلي، وأن يستخدموا تلك الوحدة لتطوير اقتصاد سوريا بدل تقطيع أوصاله ووضع العقبات الكأداء أمام تقدمه مثل فصل الساحل بموانئه التاريخية عن الداخل السوري.
وفي مكان آخر يكتب: “لم تكن هناك أي ضرورة قاهرة تستدعي في 1920 خلق دويلات صغيرة وضعيفة غير قادرة على البقاء، دويلات ينبغي لها دائما أن تستند إلى الدول المنتدبة لتحفظ وجودها. وحتى بالنسبة إلى جبل لبنان، الجيب الصغير المستقل الذي خلقه التدخل الأجنبي قبل ستين عاما (يقصد في 1860)، فإنه كان مفضلا تحديد الامتيازات الضرورية بدل توسيعها وذلك لصالح تحقيق وضعية وحكومة منسجمة لسوريا كلها قبل مرور وقت طويل”.
واليوم بعد مرور مئة عام، وفي ضوء كل ما مر من أحداث وصراعات هزت سوريا ولبنان والمنطقة وأعادت طرح الإشكالات البنيوية للدول في المشرق العربي، تعاد مسائل مثل مدى مسؤولية عهود الانتداب في خلق حدود غير ملائمة، والدفع نحو تعظيم عوامل الانقسام ومنحها زخما يفوق حجمها الطبيعي سواء وفق تقدير خاطئ في مرحلة تاريخية سابقة، أو وفق إستراتيجية انتقلت من دولة غربية إمبريالية إلى دولة أخرى ومازالت فاعلة حتى اليوم.
وإذا كان متعذرا الآن في خضم الأزمات الداخلية لكل دولة التفكير في تلك الحدود غير الملائمة، فإن ما هو ملح وضروري الاتعاظ بالتجربة التاريخية تجاه أي تفكير انفصالي جديد مهما حاول اتخاذ غطاء يظهر وكأنه استجابة حداثية لبعض الاختلافات المناطقية والطائفية.
معقل زهور عدي – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة