تحتفل روسيا، عبر وسائل إعلامها، بسيطرتها على خان شيخون، المدينة الاستراتيجية الهامة والواقعة على الاتوستراد الدولي دمشق- حلب، بعد قرابة خمسة أشهر من الاستنزاف الدامي، والقصف الجوي الروسي، ومحاولات الزحف البري من قوات النظام، والميليشيات المساندة لها، والاستعانة بميليشيات تابعة لإيران وبمرتزقة روس.
ومنذ يومين تدخل قوات النظام السوري، دون قتال، إلى بلدات ريف حماة الشمالي، خاصة مورك وكفرزيتا، وذلك بعد مضي ثلاثة أيام على انسحاب الفصائل المعارضة منها بطريقة غريبة، ما يعني أنه تم تسليمها، دون معرفة تفاصيل هذا الانسحاب المفاجئ.
لا يبدو أن هناك اتفاقا واضحا، أو ضمنيا، تم مؤخرا بين أنقرة وموسكو، بشأن صفقة لتسليم المنطقة الواقعة بالقرب من الطريق الدولي أم-5، خاصة أنّ لتركيا نقطة مراقبة في بلدة مورك، ولم تقم بإزالتها، وهي محاصرة الآن؛ بل ما حصل هو العكس، إذ سمحت تركيا مؤخرا لفصائل الجيش الوطني وفصائل في الشمال بالمشاركة في الدفاع عن المنطقة، ودون تقديم المزيد من السلاح، في محاولة تبدو متأخرة لمنع تراجع المعارضة عن مناطق نفوذها، خاصة في ريف حماة الشمالي.
بكل الأحوال، السيطرة على مورك وكفرزيتا، وقبلها خان شيخون، وكلها تقع، أو قريبة، من طريق دمشق- حلب الدولي، إضافة إلى القصف الجاري الآن على معرة النعمان، التي تقع على نفس الطريق، ومحاولات التقدم، التي لا تزال فاشلة، على محور الكبانة في ريف اللاذقية الشمالي، كل ذلك يعني أن روسيا تقوم بتطبيق بند اتفاق سوتشي حول إدلب الذي وقعت عليه تركيا، والمتعلق بفتح الطريقين الدوليين.
قبل سوتشي، تركيا شاركت في مؤتمر أستانة 4، في مايو 2017، الذي جرى خلاله رسم حدود مناطق خفض التصعيد الأربع، وعلى إثره انسحبت هيئة تحرير الشام من مناطق شرق السكة في إدلب، وتم تسليمها إلى روسيا والنظام، كخطوة أولى لفتح الطريق.
كل ذلك يعني أن تركيا موافقة منذ أكثر من سنتين على تسليم المناطق الأخيرة حول الطريق الدولي لروسيا لكنها كانت تماطل، وتقدم وعودا للفصائل بتقديم الدعم للصمود، وبالفعل قدمته في فترات محددة، واستفادت عدة مرات من التقاء مصالحها مع إرادة المجتمع الدولي، خاصة الأوروبيين، بمنع حصول كارثة إنسانية في إدلب، ونزوح ثلاثة ملايين شخص يقطنون محافظة إدلب وشمال حماة وشمال شرق اللاذقية وغرب حلب.
بل استغل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورقة اللاجئين السوريين، لتهديد المجتمع الدولي وحثّه على مساندة تركيا لمنع حصول تقدم روسي في المنطقة. وسبق أن استفاد من الخطوط الحمر التي وضعتها واشنطن منذ عام، لمنع الهجوم الروسي على إدلب، والتي على إثرها تم التوصل إلى اتفاق المنطقة العازلة في إدلب في 17 سبتمبر العام الماضي.
تمكنت روسيا من تجاوز الخطوط الحمر الأميركية، بعد أن تم فتح مسار أمني جديد في القدس، مع واشنطن وتل أبيب، ما سمح لها باستغلال الصمت الأميركي وشن الهجوم الأخير على إدلب.
اتفاق المنطقة العازلة في إدلب، الذي باركه الأوروبيون أيضا بقمة إسطنبول الرباعية، في شهر أكتوبر العام الماضي، بين تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا، لم يتم تنفيذ أي من بنوده، لا من قبل الروس والنظام، ولا من قبل تركيا، هذا فضلا عن اختلاف في تفسير هذه البنود، خاصة في ما يتعلق بالتنظيمات الإرهابية، الأجنبية منها، أو هيئة تحرير الشام، التي تتكون غالبية عناصرها من السوريين.
فغير فتح الطرق الدولية، هناك الالتزام بفرض منطقة عازلة بعمق 15-20 كيلومترا، وتسيير دوريات مشتركة على أطرافها، وأن تكون خالية من المتشددين، وخالية من السلاح، وفتح الطرق الدولية قبل نهاية العام الماضي، مع بقاء الخلاف حول الجهات التي ستشرف على هذه الطرق؛ فيما نفذت تركيا فقط البند المتعلق بإقامة نقاط المراقبة الـ12، ومنها النقطة التاسعة في مورك، المحاصرة الآن من قوات النظام.
أما ما يتعلق ببند خلو المنطقة العازلة من التنظيمات المتشددة، فما حصل حينها هو العكس، إذ أعلنت هيئة تحرير الشام سيطرتها على كامل المنطقة، بعد معارك جانبية مع فصائل إسلامية معتدلة، إذ ارتأت تلك الفصائل، ومعها تركيا، أن فتح معركة استنزاف مع هيئة تحرير الشام سيستنزفها، ما سيصب في صالح النظام ويمكنه من الهجوم على المنطقة؛ فيما تحتفظ تركيا بفيلق الشام ذي التعداد الأكبر بعد حل فصائل كبرى، وعلى رأسها فصائل الزنكي في ريف حلب الغربي، إضافة إلى فصائل غصن الزيتون ودرع الفرات، من أجل معركة تركيا الأهم ضد وحدات الحماية الكردية شرق الفرات.
وجرى تضخيم لسيطرة هيئة تحرير الشام على 90 بالمئة من مناطق المعارضة في إدلب، وهو ما استفادت منه موسكو إعلاميا في محاججتها لأنقرة، التي لم تلتزم بطرد المتطرفين من المنطقة العازلة، حيث أثبتت المعارك على الأرض أن مشاركة الهيئة في الدفاع عن مناطق المعارضة تكاد لا تذكر.
وبالتالي كان تطبيق الاتفاقات بين روسيا وتركيا هو ورقة مماطلة بيد أنقرة، ويبدو أنها استنفذتها، بعد التوصل إلى اتفاق مبدئي مع واشنطن بخصوص المنطقة الآمنة شرق الفرات، وتجنب الهجوم البري الذي كانت تعد له تركيا على الحدود مع سوريا. وترتيب وضع شرق الفرات، على يد الولايات المتحدة وتركيا، سيعني قطع الطريق على روسيا والنظام، وضياع فرصة استعادة تلك المناطق الغنية بالثروات؛ بل يعني أكثر من ذلك، أن على روسيا السعي الجدي إلى حل سياسي، وهي تفضّل ألا يكون فيه للمعارضة دور، دون أن يمر من تحت عباءتها.
أردوغان سيزور بوتين في موسكو الثلاثاء القادم، وقام باتصالات مع ترامب، وسيلتقيه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر المقبل، وهناك جولة جديدة لأستانة في أنقرة في 11 سبتمبر، كل هذه التحركات قد تتوصل فيها تركيا إلى اتفاق جديد، لإيقاف الهجوم في إدلب، وتحقيق بعض شروط روسيا.
وإذا كان الاتفاق الجديد سيتضمن فتح طريق حلب اللاذقية، فهذا يعني حصر المتشددين والفصائل المعارضة وكذلك السكان الأصليين في إدلب وريف حماة والمهجرين من مناطق أخرى في جيب صغير، وتأجيل مسألة حسمه إلى وقت لاحق.
رانيا مصطفى – كاتبة سورية صحيفة العرب