العين الأميركية التي تراقب الوضع ما بين الروس والأسد في الجنوب تراقب كيف يتضاءل دور العامل الإيراني في ظل عجز الأسد عن كسر القرار الروسي بعدم شن هجوم كاسح على درعا.
الحياة أصبحت خانقة أكثر مما يمكن احتماله
حين يقال إن ما يحدث في درعا نابع فقط من رفضها إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل التفاهمات التي أجريت برعاية روسية، والتي نشأت عنها أوضاع جديدة، فهذا يعني أن قراءة الكثيرين للمدينة الجنوبية التي يعتبرها السوريون مهد ثورتهم لا تراعي ما يعصف بعقل رئيس النظام السوري بشار الأسد هذه الأيام.
التسويات التي عقدها النظام في أكثر من منطقة، بما فيها اتفاقاته الأمنية والنفطية مع حزب العمال الكردستاني بفرعه السوري، جميعها كانت تعتمد قواعد المؤقت أكثر من كونها اتفاقات دائمة. وغالباً ما كان طرفا أي اتفاق من هذا النوع يعلمان أن الهدف منه كسب الوقت، وأن المآل سيكون باختصار بسط سيطرة الدولة من جديد، أي عودة الأسد.
في الشمال كانت اتفاقات أستانة كفيلة بخلق أوضاع اتفقت عليها كل من تركيا من جهة، وروسيا وإيران من جهة ثانية، ومن خلفهما الأسد، تفرض على الجميع التمسك بوقف إطلاق النار، ولكنها لا تمنع من المناوشات والقصف شبه اليومي، حتى من قبل الضامنين أنفسهما، الروسي والإيراني. وحده الجنوب بقي معادلة معقدة أكثر من بقية المناطق السورية.
حاجة الجنوب السوري ستستمر إلى التمرّد، ومعها ستتواصل حاجة الأسد إلى بسط السيطرة، وانكفاء أي منهما الآن، سيزيد من الأمور تفجّراً بدلاً من أن يطفئ النار
في السويداء تطلب الأمر من الأسد الاستعانة بإيران والتلويح بتهديد داعش المستمر، الإيرانيون يحاولون تفتيت المجتمع الدرزي الموحد واجتذاب الفاعلين فيه من الأعيان إلى العسكريين وشيوخ العقل، وإن تطلب الأمر يحيّدونهم جانباً بالاغتيال كحالة الشيخ وحيد البلعوس الذي ظهر ابنه مؤخراً ليتهم صراحة حزب الله وإيران باغتيال والده. أما داعش فهي السلاح المذهبي الذي يجري رفعه بين الوقت والآخر لإثارة رعب الأهالي من عصابة تكفيرية قد تجتاح السويداء وتفعل بها مثلما فعلت بجبل سنجار مع الإيزيديين.
في درعا الأمر مختلف، فهي ليست فقط بالنسبة إلى الأسد، المكان الأول الذي تفجّرت منه مشكلته، وسبب الصداع الرهيب الذي يعاني منه طيلة عشر سنين ماضية، بل هي أيضاً حاجة أساسية له كي يثبت أن الأمر استتبّ له. من هنا فهو لا يفاوض على قصة السيطرة عليها بالكامل وإعادتها كما كانت قبل العام 2011، وهذا ما لا يمكن لأهل حوران تصوّره بحكم أنهم قد عبروا مرحلة الأسد إلى نمط عيش جديد.
حاصرت قوات الأسد بفرقتها الرابعة وآلياتها درعا، مدعومة بالميليشيات الإيرانية. والسؤال الهام هنا، والذي منه ستنبثق كل الأسئلة القادمة؛ ما الذي يمنع الأسد من النجاح في احتلال درعا من جديد؟
خلال الأيام الماضية ذكرت وول ستريت جورنال الأميركية أن “روسيا تجد أن الحفاظ على السلام في سوريا أصعب من خوض الحرب” وذلك في إشارة إلى ما يحدث في درعا جنوبي البلاد. وأضافت أن “التصعيد الذي تشهده درعا من قبل قوات النظام السوري يؤدي إلى تآكل هدف موسكو في ترسيخ نفسها كطرف رئيسي في الشرق الأوسط، وتلك الاشتباكات الآن تهدد بتقويض مصداقية روسيا في سوريا، على الرغم من المكاسب التي حققتها من خلال الانحياز إلى بشار الأسد للحفاظ على قبضته على السلطة”.
أهل حوران عبروا مرحلة الأسد إلى نمط عيش جديد
العين الأميركية التي تراقب الوضع ما بين الروس والأسد في الجنوب، ترى أيضاً كيف يتضاءل دور العامل الإيراني هناك، في ظل عجز الأسد عن كسر القرار الروسي بعدم شن هجوم كاسح ضد درعا. لكن إلى متى سيقدر الأسد والإيرانيون على تحمّل الوضع الساكن المتوتر في الوقت نفسه بهذا الشكل؟
هذا الجمود الذي يزيده الأسد صعوبة بتطبيق حصار جائر على الأهالي في درعا، بدأ بحظر دخول الأدوية ووصل إلى حظر دخول الطحين قبل يومين، لن يتمكن من كسره سوى خرقين، الأول قد يفعله الأسد، وحينها سيجد نفسه بمواجهة الروس. والخرق الثاني قد يحدث بأيدي أهل حوران أنفسهم، الذين تنشر الأنباء أنهم هم من يقومون بشن عمليات ضد قوات الأسد، ما دفع الأخيرة إلى الرد عليهم بقصف عنيف وتحليق للطيران الاستطلاعي روّع السكان.
ويكاد يكون طبيعياً أن يحاول مقاتلو درعا فتح طريق من أجل تزويد المدينة بالمؤن، وهم أصحاب تجربة طويلة مع التهريب عبر الحدود السورية – الأردنية، باب الرزق الذي سدّه بوجوهم قبل سنوات رامي مخلوف واجهة الأسد آنذاك، حين استولى على المناطق الحرة وأتم حظراً قاسياً على أعمال الحوارنة الذين كانوا يسترزقون من بيع الدخان المهرّب والشاي والبضائع البسيطة. ما أسهم في اندفاعهم بقوة وبوعي تشكّل من متطلباته المستلزمات الحياتية الأساسية، ليكونوا جذوة الثورة ضد الأسد ونظامه وليس من دون معنى أن تكون صور مخلوف هي أولى الصور التي تم رفعها في مظاهرات درعا والهتاف ضده قبل الأسد.
الآن يعود التجويع من جديد، ولكنه عائد هذه المرة مع كيمياء جديدة، فلم يكن في الماضي لا روس ولا إيرانيون، بين الأسد ودرعا. والمختلف اليوم يفرض بنفسه تغيير الآلية، وهو ما لا يتقنه الأسد الذي اعتقد أن القوة الغاشمة وحدها كفيلة بحل أي إشكال سياسي أو اجتماعي أو غيره. لكن يبدو أن الروس أنفسهم فقدوا قناعتهم بالقوة الغاشمة والاجتياح وإلا لكانت درعا اليوم نسخة ثانية عن حلب. ولكنهم وعلى النقيض من ذلك، وكي يمنعوا الأسد من أي مغامرة جديدة أرسلوا أرتالاً من الشرطة العسكرية الروسية لتتمركز في وسط درعا.
ستستمر حاجة الجنوب السوري إلى التمرّد، ومعها ستتواصل حاجة الأسد إلى بسط السيطرة، وانكفاء أي منهما الآن، سيزيد من الأمور تفجّراً بدلاً من أن يطفئ النار. فإذا انكسر الأسد في درعا، ستلحق بها مناطق أخرى في سوريا، وقد فعلت مصياف وغيرها، وها هي الدعوات في حلب للتظاهر ضد الجوع تتصاعد من داخل مناطق سيطرة الأسد لا من خارجها هذه المرّة. فالحياة أصبحت خانقة أكثر مما يمكن احتماله لدى أكثر السوريين ولاءً للأسد.
إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة