أردوغان يعتقد أن هناك ترتيبات يتم إعدادها للمنطقة إما أن يصبح رقما في القلب منها أو يبقى على هامشها وحماس واحدة من الأدوات القريبة التي قد تجعله في الصف الأول منها.
كل طرف يعرف ما يريده من الطرف الآخر
انتقل قادة حركة حماس من قطر إلى تركيا أم لا، سوف تظل العلاقة بين أنقرة والحركة محكومة بما تحققه من أهداف سياسية، لأن ممارسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع بعض الملفات تشير إلى أنه لا يحتفظ بثوابت مع حماس أو غيرها.
وإذا كان الرجل قد خفّف من دعمه لجماعة الإخوان التي تنحدر منها حماس تحت ضغوط مصرية وخليجية ومصالح إقليمية، فلن يضيره أن يقوم بخطوة مماثلة مع هذه الحركة عندما يتيقن أن اقترابه منها غير مفيد سياسيا.
كشفت حصيلة اللقاء الذي جميع بين أردوغان ورئيس المكتب السياسي لحماس في تركيا، السبت، أن كل طرف يعرف ما يريده من الآخر في هذه المرحلة، فأنقرة توحي أن لها سيطرة على الحركة بما يمكنها من أن تلعب دور الوسيط، كبديل عن قطر التي قالت إنها تعيد تقييم موقفها من الوساطة بين حماس وإسرائيل، وهنية لوّح إلى أنه لن يعدم إيجاد مقر بديل عن الدوحة التي ألمحت إلى أنها تتعرض لضغوط سياسية بسبب إيواء قادة حماس وعدم ممارسة ضغوط كافية لتليين موقفهم في صفقة الأسرى.
◄ أنقرة ترى أن حماس ورقة يجب عليها عدم التفريط فيها فالمأزق الذي تعيشه الحركة سيجعلها أكثر ثقة في تركيا لكن هذا التفسير يمكن أن يصبح كابحا لتعظيم دور أردوغان في المنطقة
ومع أن أمر رحيل قادة حماس عن الدوحة لم يحسم نهائيا، إلا أن تركيا تريد القيام بدور الوسيط بين حماس وإسرائيل، وتستغل ذلك لتحسين علاقتها مع تل أبيب بعد أن تعرضت لشروخ مؤخرا، وامتلاك ورقة تمكنها من إعادة تقديم نفسها كدولة تسعى إلى توفير الأمن والاستقرار بعد مرحلة عرفت فيها أنقرة أنها مصدر للتوتر والصراع والتدخلات السافرة في عدد من المناطق وتسخير نزاعاتها لخدمة مصالحها.
تعلم تركيا أن القضية الفلسطينية هي أمّ القضايا في منطقة الشرق الأوسط، وأخفقت مرات عدة في أن تصبح رقما مهما في معادلتها بسبب تقلب مزاجها السياسي، وعدم رغبة بعض الأطراف الإقليمية الفاعلة أن يكون لأنقرة دور في ذروة تأييدها لقوى إسلامية، وعدم التخلي تماما عنها يضاعف من صعوبة تقبل مشاركتها السياسية، بعد غضب عارم أثارته عملية طوفان الأقصى على حماس وتوجهاتها الإسلامية.
كما أن قادة حماس لم ينقطعوا عن تركيا وترددوا عليها كثيرا في الفترة الماضية ولديهم إقامات على أراضيها، ولم يتم إسناد دور سياسي لها في أيّ وساطة سابقا أو حاليا، فالأمر لا يتعلق بتواجد مادي لقادة الحركة في تركيا أو غيرها لممارسة دور حيوي.
ولا يقيم قادة حماس في مصر ويترددون عليها بحكم الجغرافيا السياسية والتاريخ، وتوسطت القاهرة في الصراعات التي اندلعت في قطاع غزة في السنوات الماضية.
تفتقر أنقرة إلى الجغرافيا التي تملكها مصر، والقبول الأميركي والإسرائيلي الذي تملكه قطر، ولن تتمكن من القيام بدور مؤثر عبر الوساطة لأنها تفتقد إلى النزاهة، وعدم القدرة على ممارسة ضغوط على الجناح السياسي لحركة حماس، لأن القرار بيد الجناح العسكري ويقوده من غزة يحيى السنوار.
كل المشهديات التي بدا فيها أردوغان ودودا مع هنية أو ظهر الثاني فيها كأنه يملك مفاتيح أبواب أنقرة هي محاولات يسعى كل طرف لتأكيد أن له تأثيرا سياسيا على الآخر ضمن حسابات إقليمية معقدة.
تحتاج أيّ مقاربة تركية بشأن حماس الفصل بين التوجهات العقائدية والسياسية، فالأولى تستلزم انحيازا مطلقا، بينما تفرض الثانية الحياد الكبير للتفكير في أيّ دور يمكن أن تقوم به أنقرة في ملف الوساطة أو المشاركة بفاعلية في ترتيبات تتعلق بالقضية الفلسطينية، فهناك فصائل فلسطينية لا ترتاح لدور تركيا وتعلم حجم دعمها لحماس، وثمة قوى إقليمية ودولية ترى أن الأجواء مواتية لتحجيم أسطورة حماس العسكرية في المنطقة، ولن تتحقق هذه المسألة وتركيا تبدي تعاطفا معها.
تحاول أنقرة توظيف حماس في هذه المرحلة والاستفادة من العلاقات معها في توصيل رسائل تؤكد أنها منفتحة على التسوية التي يتوافق عليها المجتمع الدولي، وتحدث مسؤولون في أنقرة عن قبول تحوّل حماس إلى حزب سياسي، وألمحوا إلى دعم دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ليوحي ذلك بوجود تغير في التفكير قد يلفت الأنظار، ويفتح المجال للاستعانة بأنقرة في الضغط على حماس أو إقناعها أن تتصرف برشادة.
تأتي المشكلة من داخل الحركة وليس من تركيا، إذ تعلم قيادتها العسكرية أن تسليمها بما ذهبت إليه تركيا أو غيرها من تدجين سياسي يعني إعدام حماس معنويا، فقد استمدت دورها من رفع شعار المقاومة والتمسك بعقيدتها الدينية، وتغير موقف تركيا في هذين الملفين لا يدعو إلى اطمئنان القادة النافذين في الحركة.
ويشير شك الحركة في سعي تركيا نحو الاستثمار السياسي في حماس إلى إعادة تصويب مسار علاقتها بإسرائيل التي اهتزت مؤخرا بسبب تصريحات أردوغان المسيئة لها، ويؤكد تعديل موقفها من حماس أنها تستطيع تنفيذ أجندة الولايات المتحدة في المنطقة، والتعويل عليها في إطفاء بعض الأزمات الإقليمية بدلا من إشعالها.
◄ مع أن أمر رحيل قادة حماس عن الدوحة لم يحسم نهائيا، إلا أن تركيا تريد القيام بدور الوسيط بين حماس وإسرائيل، وتستغل ذلك لتحسين علاقتها مع تل أبيب بعد أن تعرضت لشروخ مؤخرا
غير أن تركيا تفتقر إلى الخبرة الكافية في التعامل السياسي مع التنظيمات التي اقتربت منها، والتعاطي معها كرافد من روافدها أو أداة تمكّنها من تضخيم دورها الإقليمي، فالنماذج التي انخرطت فيها أو معها أنقرة جميعها أخذت طابعا عسكريا، وهي مشكلة سوف تواجهها في كل الصراعات التي تريد أن تلعب دورا سياسيا في تحجيمها.
ما تركته تركيا من تصرّفات وتحرّكات وميراث عام في سوريا والعراق وليبيا، وحتى مواجهتها مع مصر، كان ذا أبعاد أمنية رئيسية، وعندما تريد توظيف حماس سياسيا ستجد نفسها أمام أزمة إدارة في الوصول من خلالها إلى ما ترمي إليه من أهداف، وأزمة ثقة من اللاعبين المعنيين بدورها والحدود التي قد يبلغها.
ترى أنقرة أن حماس ورقة يجب عليها عدم التفريط بها، والمأزق الذي تعيشه الحركة بعد حرب غزة سيجعلها أكثر ثقة في تركيا من غيرها، لكن هذا التفسير يمكن أن يصبح كابحا لتعظيم دور الرئيس أردوغان في المنطقة وميله نحو تغيير جلده تمهيدا لتبني مشروع سياسي جديد يسير في اتجاه عكس مشروعه السابق الذي لقي فشلا ذريعا، ولا يريد أن تستمر مراوحته فترة طويلة وهو يرى أن التطورات بعد انتهاء حرب غزة سوف تمضي بصورة متسارعة وبشكل لن يصبّ في صالحه.
يعتقد أردوغان أن هناك ترتيبات يتم إعدادها للمنطقة، إما أن يصبح رقما في القلب منها أو يبقى على هامشها. وحماس واحدة من الأدوات القريبة التي قد تجعله في الصف الأول وعليه أن يسعى إلى توظيفها بكل ما يملكه من براغماتية سياسية.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة