في أدبيات «الحياكة» نجد مختصاً في تصميم الأزياء الرجالية، وآخر مختصاً في الأزياء النسائية، لكن في أدبيات الحياكة السياسية يفاجئنا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنه تفوق على جميع مصممي الأزياء، وكل يوم يؤكد أنه ماهر في تنفيذ أي موديل سياسي بأي مقاس، وبأي لون، أي إنه يحترف حياكة القماشة السياسية حسبما يُطلب منه؛ سواء جاهزة وتفصيلاً.
كل الشواهد والمؤشرات تقول إن إردوغان جاهز للذهاب إلى أي مكان أو التعامل مع أي أزمة أو تقديم الخدمات التي يطلبها التنظيم الدولي للإرهاب، فهو مقتنع تماماً بأنه يقوم بدور وظيفي ينفذه باحترافية لصالح من يحركه، هذا الدور الوظيفي يتسق تماماً مع المسيرة التاريخية للدولة التركية منذ دخولها حلف «الناتو» عام 1952، وقيامها بالمهمة الخدمية والوظيفية نفسها لصالح أجندات التخريب والفوضى والتقسيم والتمزيق.
إردوغان يسير على الدرب نفسه، يؤمن بثقافة المراوغات وقلب الحقائق والاعتداء على الغير… رئيس مخلص لقاموس الشر، يعرف جيداً كيف يتعدى على حقوق الآخرين، ويهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة… وجوده في المشهد السياسي مرتبط بحضوره المزيف، يخشى العين الحمراء، ويتراجع خطوتين إلى الوراء عندما يشعر بخطر حقيقي، لكن سرعان ما يطل بسمومه ومناوراته الرخيصة نفسها من شرفة أخرى.
لا تزال أوهام العثمانية الجديدة والوطن الأزرق تطارد أحلامه السياسية بالتوسع وفرض النفوذ. بذل الرئيس التركي قصارى جهده لكي يكون لأنقرة موطئ قدم فيما يعتقد أنها أرض أجداده.
في الغرف المغلقة يجلس إردوغان هو ورجاله في الاستخبارات التركية ليرسم خريطة عثمانية جديدة لا تعترف باتفاقيات «لوزان – 1923»، و«منترو – 1936» و«باريس – 1947». الاعتداء والتطاول على حق الدول ومقدرات الشعوب باتا عقيدة ومنهجاً لدى إردوغان، لا يهمه آليات وطرق التنفيذ، فالمرتزقة والميليشيات والمأجورون أدوات ممولة من حليفته الدويلة الصغيرة التي تشاركه فلسفة تنفيذ المهمة على طريقة «جاهز وتفصيل».
يفكر الآن في أن تكون حدود إمبراطوريته الجديدة بدءاً من «تركستان الشرقية» في الصين شرقاً حتى دول البلقان والمغرب غرباً، ومن شبه جزيرة القرم شمالاً حتى الصومال وإريتريا جنوباً، إذ إننا أمام عقلية «صدامية» تعيش خارج الواقع؛ فمعنى حلمه بتنفيذ هذه الخريطة التي كشف عنها الفرنسيون في المركز الثقافي التركي بمدينة تولوز، يؤكد أن أنقرة ستدخل في صدام مؤكد مع الصين وروسيا، وأكثر من 40 دولة في هذه المساحة الواسعة من العالم.
أي تفكير هذا؟ وأي عبث هذا الذي يمارسه الرئيس التركي؟ تركيا نفسها غارقة في الديون والمشكلات الاقتصادية؛ فقد خسرت الليرة التركية 39 في المائة من قيمتها، وكسر التضخم حاجز نسبة 23 في المائة، وبشهادة البنك المركزي التركي؛ فإن أنقرة في ورطة سداد ديون عاجلة قيمتها 300 مليار دولار قبل نهاية 2021. هذا الوضع الاقتصادي المنهار أدى لتآكل شعبية إردوغان، وذلك وفق جميع استطلاعات الرأي التي جرت عام 2020.
كل تحركات إردوغان الحالية تقول إنه مشغول بحياكة أحدث «موديل» تخريبي نشاهده في نقل الإرهابيين والمرتزقة التركمان والسوريين إلى إقليم ناغورني كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان بهدف خلق بؤرة جديدة جاذبة للتنظيمات الدولية المتطرفة في جنوب القوقاز لبناء تحالف إرهابي كبير يربط بين الجماعات الإرهابية في الشيشان وداغستان وأنغوشيا.
إلى ذلك؛ يأتي ما نراه في ليبيا وسوريا والعراق، ففي ليبيا لا يزال الرئيس التركي يتوهم أنه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه بالعودة إلى ما يسميها أملاك السلطان عبد الحميد الثاني. صال وجال، وعقد اتفاقيات ولقاءات سرية وأخرى علنية. قطع على نفسه وعداً أمام تنظيمه الدولي بأن العودة إلى ما يسمى «الربيع العربي» ستأتي من طرابلس الغرب، وبأن 20 ألفاً من المرتزقة والإرهابيين جاهزون للانتشار وبث الفوضى في ليبيا؛ إيذاناً بتوسيع مساحة الفوضى لتطال دول الجوار الليبي العرب والأفارقة. وفي سوريا، يحاول أن ينتقل من مرحلة «الاحتلال» إلى مرحلة «التتريك»، وتكرار جرائمه في الشمال القبرصي؛ إذ إنه يسعى لسلخ شمال وشمال شرقي سوريا وضمهما للأراضي التركية من خلال إقامة أكثر من 15 قاعدة ونقطة عسكرية هناك.
كل هذا لا ينفصل عن أوهامه في شمال العراق، فقد احتلت تركيا مساحات واسعة وأقامت عليها عشرات القواعد العسكرية؛ أبرزها معسكر «بعشيقة»، هذا فضلاً عن أن إردوغان يراوده الوهم بأن مرور 100 عام على «اتفاقية لوزان» عام 2023 سيعود به لأملاك السلطان عبد الحميد الثاني في ولاية الموصل؛ بل والأدهى أنه يفكر في إجراء استفتاء لسكان الموصل للعودة إلى تركيا.
إذن الأوهام مستمرة. أنقرة على حافة الانهيار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. إردوغان نجح بامتياز في توحيد جميع الأعداء ضده. الشعب التركي وحده هو من سيدفع ثمن المغامرات الهوجاء لرئيسه. معظم دول العالم، سيما أوروبا، أدركت دوره في توسيع دائرة الإرهاب عبر ما تسمى «المشروعات الخيرية». أجهزة المخابرات الأوروبية كشفت عن أخطاره في خدمة الإرهاب وتنظيمه الدولي.
كل هذه الشواهد تقول إن إردوغان، رغم أنه ينفذ حرفياً ما يطلب منه؛ يواجه في الفترات المقبلة عواصف سياسية لن تقوى أنقرة على الصمود أمامها، وإن فاتورة التهور الإردوغاني ستكون باهظة الثمن.
جمال الكشكي – كاتب مصري – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة