لا يحتاج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تذكيرنا بأن وجوده في سوريا وليبيا ليس من باب العبث، وإن كان مغامرة، على عكس ما يراه هو.
عادة ما ينتهي العبث بخسائر محدودة، مثل عبث الأطفال تماما، أما المغامرة فهي كثيرا ما تقود إلى كوارث.
يريد أردوغان أن يقنعنا، بعد أن أقنع نفسه، بأنه موجود في ليبيا وسوريا وفي البحر المتوسط بوصفه مناضلا. ويريدنا أيضا أن نصدق ذلك. دونكيشوت القرن الحادي والعشرين حدد أعداءه وخرج خلفهم مجاهدا.
وبالطبع يدرك “المجاهد” أردوغان أن مصالحه تتعارض أحيانا مع مصالح بعض الدول، وهذا البعض، يشمل فيما يشمل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والصين؛ أصحاب القضايا الكبرى، مثله، يرون في تلك الدول مجتمعة مجرد بعض.
هوس أردوغان وصل به إلى حد أنه قال، ردا على صحافيين أتراك وصفتهم وكالة الأنباء الرسمية بالمعارضين، إن تقاعست تركيا عن تبوّؤ المكانة التي تستحقها في العالم فستدفع ثمنا باهظا مستقبلا.
الكارثة أن أردوغان، مثله مثل دونكيشوت، يؤمن إيمانا عميقا بالكذبة التي يكذبها، وهو على يقين من أنه يخوض نضال الاستقلال من جديد؛ ليس على الورق في رواية كتبها إسباني ساخر، بل على الأرض مسببا كوارث إنسانية لم يبخل بذرف الدموع على ضحاياها.
لا شيء سيوقف الفارس الذي قرر أن يمضي بمفرده لتحقيق النصر؛ فقوة أنقرة، والحمد لله، “تكفي لتحقيق أحلامه على أرض الواقع”، وبالشكل الذي يريده. وبالطبع هذه الأساليب ستشمل بعد استنفاد الخيارات الدبلوماسية والديمقراطية، وهذا كلامه هو، الخيار العسكري وبأعلى مستوياته إن لزم الأمر. ماذا يعني هذا؟
أردوغان، أبو تركيا الحديثة وصانع أمجادها، حدد خارطة الطريق التي سيتبعها، مستنكرا جهود كل من حاول أن يوجه النقد أو تجرأ على أن يشكك بحكمته، في الدفاع عن الديمقراطية والأمن في تركيا.
لقد أعذر من أنذر، وأردوغان أنذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والروسي فلاديمير بوتين، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في مكالمات هاتفية، وهو لا يريد بعد هذا أن يفرّط في الحقوق الإلهية التركية.
المضحك والمبكي في الأمر، أن من يساعد أردوغان ويقف إلى جانبه في “النضال الذي يخوضه ضد حفتر”، فرق من “الجيش الوطني السوري”، التي تواصل الكفاح فوق الأرض الليبية، بعد أن خاضت الكفاح معه داخل سوريا.
أن يصدر هذا الكلام عن رجل معروف عنه طموحه لإعادة الخلافة العثمانية شيء، ولكن أن يجد من يصغي له شيء آخر.
يؤمن أردوغان بأن النجاحات والانتصارات التي سيحرزها ستغير مجرى التاريخ، وتعيد رسمه مرة أخرى. ومسلحا بهذا الوهم و”بحس المسؤولية سيواصل اتخاذ خطوات ثابتة وواثقة دعما للمظلومين”.
كل شيء كان يسير كما يشتهي الرئيس التركي، إلى أن اصطدم بالعائق الروسي، متمثلا في فلاديمير بوتين الذي قرر أن يثبت وجود روسيا في المنطقة وبالتالي لن يسمح بتحقيق نصر تركي هناك.
المكالمة الهاتفية والاجتماع الرباعي الذي دعا إليه أردوغان، لن يغيرا الموقف الروسي من النزاع، لذلك هناك الآن محاولات تركية تسير جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى الاجتماع، لتذكير واشنطن بأن أنقرة حليف لها في حلف الناتو، وبالتالي جر الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، وهي مواجهة يخشاها الطرفان الروسي والأميركي، لأن عواقبها لا يمكن التنبؤ بها.
أحلام أردوغان بالتمدد لا تقتصر على الاتجاه غربا، آخر حلفاء تركيا يعمل أيضا على التمدد باتجاه الشرق، وإن لم يكن هذا التمدد يحمل الطابع العسكري، إلا أنه أكثر خطورة. المستهدف الأول فيه هو روسيا، أما الوسيلة فتمر عبر جمهوريتين من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا، أذربيجان وكازاخستان، حيث شرعت الدول الثلاث في تدريس “التاريخ التركي المشترك”، ويحتوي المنهج معلومات أساسية حول الدول التركية التي تأسست على مر التاريخ.
وإلى جانب الجمهوريات التركية السبع، انتشر التُرك ضمن جمهوريات فيدرالية داخل الاتحاد الروسي سابقا، وإقليم تركستان الشرقية في الصين، وكأقليات في القرم ودول البلقان وسوريا ولبنان والعراق.
مغامرات أردوغان ليست مجرد حبر على ورق، وما يبدو اليوم مجرد حماقة يرتكبها شخص واهم، قد ينقلب غدا إلى كارثة يدفع ثمنها الجميع، إن لم يحسن قادة الدول الأوروبية ومعهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التعامل مع دونكيشوت البحر المتوسط.
وبينما تبقى مشكلة أوروبا مع تركيا محصورة في طوفان اللاجئين القادم إليها من مناطق النزاع، ويمكن حلها بتقديم بعض التنازلات لأنقرة، تبقى مشكلة بوتين مع أردوغان أعمق من ذلك.
ليس أردوغان وحده من يعلم دروس التاريخ، بوتين أيضا يعلم تلك الدروس. وإن كان أردوغان لم يشهد انهيار الإمبراطورية العثمانية التي يبكيها يوميا، فإن بوتين ما زال يشعر بمرارة انهيار الاتحاد السوفياتي الذي عاصره عالقة تحت لسانه.
لن يستطيع أردوغان المراهنة على تبدل في الموقف الأميركي، الذي يفضل الآن المراقبة عن بعد، بعد أن كان طرفا فاعلا في النزاع، لسبب بسيط؛ هو أولا، أن بوتين لا يمتلك ترف الخسارة. وثانيا أن ترامب يؤمن بأن عدوّ عدوّي ليس صديقي دائما.
علي قاسم – كاتب سوري مقيم في تونس – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة