من مجمل سياسات النظام الإيراني وإجراءاته وقراراته وتصرفاته في جميع سنوات حكمه يتبين أن مبدأ التعجيل بمواجهة المتظاهرين بالقتل والاغتيال والخطف والاعتقال عقيدةٌ ثابتة وأساسية في بنيته التي لا تتغير.
نظام قائم على العنف والوحشية
لن يخرج النظام الإيراني المحتل من العراق وسوريا ولبنان واليمن إلا بحالة واحدة هي أن ينشغل بأمنه وسلامة رأسه قبل أي شيء آخر.
وهذا ما يفسر نزوعه إلى استخدام أشد حالات التوحش الهمجية التي يردّ بها الحرس الثوري على تظاهرة شعبية صغيرة، حتى لو كان القائمون بها من أهل النظام نفسه، وبمطالب عادية لا علاقة لها بالسياسة ولا بالمعارضة، ليس في مدينة أو قرية في إيران وحدها، بل في أي شارع من شوارع مستعمراته العراقية أو اللبنانية أو اليمنية أو السورية، قبل أن تكبر ويشتد عودها ويصبح وأدها أصعبَ وأكثر كلفة، عسكريا وأمنيا واقتصاديا. وفي مثل هذه الحالات فإن النظام لا يهتم بغضب أي منظمة إنسانية إقليمية أو عالمية، أو أي حكومة أو حزب أو زعيم.
وحالات القمع الجنوني التي يزخر بها تاريخ هذا النظام لا تحصى بسهولة، منذ قيامه في العام 1979 وحتى هذه الأيام.
فلم تَقمع أجهزة النظام تظاهرة في مكان، داخل الأراضي الإيرانية أو خارجها، حتى تندلع أخرى غيرُها في مكان آخر، ثم تقمعها بعنف أشد وأكثر عصبية.
ومن ينسى الانتفاضة الخضراء التي شهدتها أغلب المدن والقرى في إيران على مدى شهور من عام 2009، إثر إعلان فوز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية التي أدانتها المعارضة واتهمتها بالتزوير.
فقد واجه المتظاهرون، وهم من الموالين لفكر الخميني، نفسه، قمعا مضاعفا أدى إلى مقتل المئات، واعتقال الآلاف، وفرض الإقامة على قادة بارزين.
وحشدت المعارضة في شوارع طهران قرابة خمسة ملايين متظاهر رفعوا الرايات الخضراء هاتفين “أين صوتي؟” و”من سرق صوتي أيها الدكتاتور؟”.
وقد ردت السلطات الإيرانية بحملة قمع وقتل واعتقالات واسعة شملت صحافيين ونشطاء ومحامين وسياسيين من دعاة الإصلاح، بمن فيهم محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس الأسبق محمد خاتمي، وزهراء إشراقي حفيدة الخميني.
وكالعادة اتهم النظام قادة الانتفاضة بالعمالة للأميركان والإسرائيليين، واعتبرها حربا ناعمة يشنها أعداؤه من الخارج.
وكان أكثر شعار أزعج النظام هو “إيران أولا”، و”لا غزة ولا لبنان، روحي فداك يا إيران”، وهو ما يعتبر رفضا علنيا لوصية الخميني الداعية إلى تصدير الثورة إلى الخارج.
ومن أبرز الانتفاضات الشعبية في إيران ثورةُ نوفمبر 2019 التي انتشرت في 30 محافظة إيرانية، وتعد الأكثر انتشارا في عمر النظام.
وبالطبع، كان قمعها هو الأكثر دموية في تاريخ التظاهرات الشعبية خلال العقود الأربعة من عمر النظام. وتؤكد إحصائيات محلية إيرانية ودولية مستقلة مختلفة مقتل ما لا يقل عن 1500 متظاهر، فيما لم يعلن النظام، حتى الآن، عن إحصائيات رسمية وتفصيلية لأعداد القتلى.
وفي سلسلة التظاهرات والانتفاضات الداخلية كانت ثورة الأحوازيين المستمرة، بدوافع وأسباب متنوعة متجددة.
من يتحمل مسؤولية قمع المتظاهرين؟
وبعد تظاهرات الأحوازيين التي قمعها النظام بأقصى درجات العنف، بما فيها الرصاص الحي، تأتي اليوم تظاهرات عطشى أصفهان الذين يحتجون على سياسات النظام في طهران التي تسببت في جفاف نهر يشكل المصدر الأساسي للمياه في المدينة.
يقول مايكل بيج نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش، إن “إخفاء الحقيقة عن أهالي المفقودين، مع ضخ المزيد من الخوف واللجوء إلى الانتقام، هو استراتيجية حكومية لا تتغير”.
ومرة أخرى هتف المتظاهرون “الموت لخامنئي”، بينما كشفت مقاطع مصورة نشرت على مواقع التواصل عن اشتباكات دامية بين الحرس الثوري والمتظاهرين.
أما أكثر من يتحمل المسؤولية عن قمع المتظاهرين فهو المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وحسن روحاني رئيس الجمهورية السابق، وإبراهيم رئيسي الرئيس الحالي، ومجلس الأمن القومي الذي يتألف من قائد الحرس الثوري الإيراني، وقائد قوة الشرطة، والنائب العام، وبعض مسؤولي الأمن وإنفاذ القانون الآخرين.
ومن مجمل سياسات النظام وإجراءاته وقراراته وتصرفاته، في جميع سنوات حكمه، يتبين أن مبدأ التعجيل بمواجهة المتظاهرين بالقتل والاغتيال والخطف والاعتقال عقيدةٌ ثابتة وأساسية في بنيته التي لا تتغير.
وكان طبيعيا وعاديا أن تنتقل هذه الجرثومة إلى وكلائه العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين والغزّاويين المأمورين بإرهاب من يرفض احتلاله أو يطالبه بأي حقوق، حتى لو كانت مشروعة، وباستخدام القوة ضد أي متظاهرين، حتى لو كانوا من بسطاء أبناء الطائفة الشيعية ذاتها.
وما جرى في العراق أيام انتفاضة أكتوبر 2019 كان تقليدا حرفيا لسلوك النظام في قمعه للمتظاهرين من مواطنيه.
فقد أقدمت العصابات العراقية الإرهابية المسلحة على قتل أكثر من 600، وإصابة الآلاف بإصابات وعاهات مستديمة. ناهيك عن عمليات الخطف والاغتيال والتغييب والتعذيب التي ارتكبتها تلك العصابات ثم اتهمت بها طرفا ثالثا لم يعرف إلى غاية اليوم.
ومثلما دأب النظام الإيراني على اتهام المتظاهرين الإيرانيين بالعمالة للأجنبي فإن العصابات العراقية أيضا هي الأخرى اتهمت المتظاهرين العراقيين بالعمالة للأميركان والصهاينة والسعوديين.
ولكن الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية لم تتطوع، هذه المرة، لقتل المتظاهرين التابعين لفصائل السلاح الإيراني الخاسرين في الانتخابات الأخيرة، وهم يُغلقون بوابات المنطقة الخضراء، ويتطاولون على هيبة الدولة، منذ العاشر من الشهر الماضي وحتى اليوم.
إبراهيم الزبيدي – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة