كان من اللافت للغاية في الأشهر الأخيرة الترويج المحموم لبعض الدول الأوروبية ومؤسسات الأمم المتحدة لما يُعرف بهيئة التفاوض، وتوابعها المُصنعة على أجندة ما عُرف بتشكيل هيئة حكم انتقالي بين هذه التشكيلات من جهة ومنظومة بشار الأسد من جهة أخرى، وكان الترويج لبعض الشخوص ضمنها على رأس أولويات هذه الجهات، ومنهم الرئيس الحالي لهذه الهيئة بدر جاموس وهو، وفق المتداول، قنصل سابق لمنظومة بشار الأسد ، ويبدو اليوم من الأهمية بمكان تعريف دور هذا التشكيل المُسمى هيئة تفاوض، لمعرفة أسباب هذا الترويج وكشف الغطاء عن أي سيناريوهات بيع ومقايضات محتملة من قبل هؤلاء على حساب الأراضي السورية وعلى حساب هوية السوريين ومصالحهم.
بالعودة للمهمة الرئيسية لهذا التشكيل فهي وفق تصريح اعلامي لبدر جاموس ورد في شهر كانون الثاني من عام ٢٠٢٣ على تلفزيون سوريا يذكر بوضوح أن الجهة المفوضة بالمعارضة بتطبيق ما يعرف بالقرار ٢٢٥٤ هي هيئة التفاوض، أي أن هذه هي مهمتهم التي فوضتهم بها الدول عند تشكيل الهيئة، كما أنه يؤكد مراراً في التصريح الإعلامي ذاته بأن هذا قرار دول، وأنه ليست لديهم في الهيئة حلول ولا خيارات أمامهم، ويمكن القول أنه يصدق في هذا التوصيف، فبالتأكيد هذا التشكيل لا يمتلك الحلول ولا القرارات ولا الاختيار ويتمسكون اذاً بحبل القرارات الأممية.
وهي للتذكير القرارات ذاتها التي أغرقت القضية الفلسطينية في عقود من الشتات والمعاناة وصولاً للحال الكارثي في هذه المناطق اليوم، لكن ذلك ليس مجال هذا المقال بل هو التركيز على نهج هيئة التفاوض فهو نهج ناتج عن منظومة بشار الأسد بسبل التعامل الدولي، فلم ولن يخرج خريجو هذه المدرسة عن وضع أنفسهم ووضع ما يدعون تمثيله، كذباً، من سوريا بمكانة أقل من مفهوم السيادة ويضعون أنفسهم تحت تصرف مؤسسات دولية لم تستطع انقاذ طفل واحد في العالم، ولم تستطع حماية مشفى ولا ملجأ بوجه الهمجية، واقصى ما تقوم به هو التنديد والشجب.
فهذا هو نهج بشار الأسد، والذي رفضه السوريون بثورة تعيد الاستقلالية والسيادة وتمنع هذه المنظومة الزبائنية من استنزاف مُقدرات سوريا وأهلها بمقابل تقديم خدمات للدول تبقي على المنظومة السلطوية وتمنع تطور المجتمع وتقوده للتقهقر المستمر.
وفعلياً لم تخرج سردية بدر جاموس عن سردية منظومة زبائنية فهو يشرح عن مواقف الهيئة تجاه المطالب التركية والدولية وعودة اللاجئين وما سماه بالمنظمات الانفصالية..الخ ولا يتطرق لمصالح السوريين ولا لهويتهم ولا لتعدديتهم ولا يمكنه تصور رؤية مستقلة عن مسار الأمم المتحدة الفاشل على جميع الصعد، فهو ترويج خدمي جديد، لإبقاء هذا التشكيل المُسمى هيئة تفاوض بمقابل وهم لن يحصل اسمه تنفيذ قرار ٢٢٥٤، وبمقابل تعطيل الحل الجذري الفعلي الذي يعيد للسوريين حقوقهم، جميعها.
من هذا الدور المُعلن حرفياً لهيئة التفاوض على لسان رئيسها، بكونهم ممثلين للقرار الدولي الساعي لتقاسمهم للسلطة مع منظومة بشار الاسد، وليس كممثلين للسوريين، يحق لنا اليوم أن نعلن على رؤوس الاشهاد، أن هذه الهيئة لا يمكنها أن تحقق أمن السوريين بل أنها قد تقود بنهجها السياسي المنحرف لإبادات جماعية ومجازر لم تعد تخفى على أحد وحدثت وتحدث تحت مرأى العالم أجمع، ولا يمكن تبرئة هذه الاطراف من معاناة السوريين، بل أن هذه الهيئة تُسلّم، بوقاحة مُعيبة، أن مصير الشعب السوري تحده قرارات دولية، وتضع البلاد تحت وصايات لا تحترم الهوية السورية ولا أهلها ولا تهتم بمصيرهم وتعمل على اضطهادهم وتهجيرهم.
في هذه الكلمات رفع مسؤولية، بعد ستة أعوام من مشاركتي في مؤتمر شُكلت ضمنه هذه الهيئة في عام ٢٠١٧ في مدينة الرياض، وأعلنت انسحابي ببيان عام موثق بتاريخ ٢٧ نوفمبر ٢٠١٧ بعد ثلاثة أيام، رأيت فيها وجوهاً كارهة للهوية السورية وعاينت خطابات مزدوجة تقول غير ما تفعل، وبحكم أنني أؤمن بحقي وبحق كل سوري وسورية بالحياة وبحقنا بأن نفتخر بهويتنا وبتاريخنا وبما ساهمنا به في تطور البشرية، أرفع مسؤوليتي عن الوهم والتلاعب السياسي الذي تروج له مؤسسات دولية تدعم هذا التشكيل لستة سنوات لم يحقق فيها أي جدوى للقضية السورية، وأقول للسوريين، حماية الهوية اليوم واجب ذاتي من التهديد بالاندثار وهو حق اساسي مكتسب ولا مساومة عليه، فلنفرض رؤية سوية وسليمة فنحن بُناة حضارة وباقون بتعدديتنا ولا تلتفتوا لما دون ذلك من لغو.
د. سميرة مبيض – عضو اللجنة الدستورية السورية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب