يريد النظام المصري وضع حد للتطرف ووقف نمو التنظيمات الإسلامية الخارجة على القانون في المنطقة ويخوض حربا ضد هؤلاء في الداخل وعلى استعداد لمطاردتهم في الخارج مدافعا عن موقفه بكل الطرق.
لن تستطيع مصر تجنب الصدام مع تركيا مهما حاولت تفاديه، ولن تتمكن الأخيرة من تجنب المواجهة مهما حاولت الالتفاف عليها أو الهروب منها، فالمعادلة صفرية بامتياز، ومكاسب القاهرة خسائر لأنقرة، والعكس صحيح، وكل ما يجري من مناوشات هنا أو هناك لن يتوقف عندها، حتى لو حاول كل طرف الابتعاد عن نقطة الانفجار.
هناك خياران لوقف هذه الحالة، إما التفاهم والاتفاق على قواعد اللعبة وتوزيع الأدوار بطريقة سلمية، وإما الصدام وتقضي دولة على الطموحات الإقليمية للأخرى، ففكرة التقارب بين القاهرة وأنقرة غير واردة في ظل تباعد المسافات السياسية وصعوبة تقديم تنازلات متبادلة، فالخيار الثاني لا مفر منه ولن تستمر الحرب بلا معالم واضحة، تجاوزت الخط البارد ودخلت مرحلة دافئة، وتوشك أن تقترب من مربع السخونة.
لم تعد الطريقة التي تتعامل بها تركيا مع الملفات التي تتقاطع مع المصالح المصرية تصلح معها الحرب الباردة أو الدافئة، باتت تحتاج إلى قدر كبير من الحسم، ولا بد أن يكون هناك فائز وخاسر سياسيا، ولم يعد منطق التعايش والقبول بالآخر ممكنا مع اتساع التناقضات بين القاهرة وأنقرة، وهما فعليا على طرفي نقيض في غالبية القضايا الإقليمية، فإحداهما تميل إلى الفصل بالليونة والثانية تمعن في اللجوء إلى الخشونة.
وضعت مصر الحرب على الإرهاب في قمة أولوياتها، وتضغط على حلفائها لوضع رؤية شاملة لها، وعدم التهاون مع الدول التي تحتضن أو تتورط في جرائم عنف تعتمد فيها على المتطرفين، ووضعت تركيا الإرهابيين في مقدمة الوسائل التي تسخرها
لكل دولة أدواتها وحساباتها وفهمها لما يجري من تطورات في العالم، وطريقة تختارها لتحقيق مصالحها، ودور ترسمه قيادتها وتعمل لأجل ترسيخه في الأذهان، وتقديرات تستند عليها في تحديد التحركات المناسبة لها، وهذا لا علاقة له بالأحلام أو الخيالات، فكل منهما يتم تشييده بعيدا عن الواقع وطقوسه، وما تستطيع الدولة تحقيقه بالوسيلة المناسبة، شريطة أن تكون مسنودة بمنطق وإمكانيات وتراعي قوانين المجتمع الدولي الذي لا يضع اعتبارا كبيرا للحق والعدل وينحاز للقوة والبغي أحيانا.
تبدو تركيا بعيدة عن التوازنات الدولية، وتتعامل مع المنطقة كأنها قوة فوق كل القوى، أو هكذا يراها كثيرون، بينما تقيم مصر وزنا كبيرا للمجتمع الدولي وتراعي التشابكات التي تعتمل بين قواه، وتلتزم إلى حد بعيد بقوانينه المعلنة والضمنية، بمعنى لا تؤمن بالمجازفة والغطرسة وتفتقر للرغبة في الهيمنة والتحكم في مفاصل المنطقة عنوة، والقيام بأدوار خارقة للعادة، وتتبنى قيادتها خطا رشيدا أكثر من اللازم.
نحن أمام نوعين من الأنظمة، الأول (تركيا) يريد فرض كلمته بكل الأدوات الممكنة وغير الممكنة ودون اعتداد بالطريق الدبلوماسي ومستلزماته السياسية المتشعبة، والثاني (مصر) يسعى إلى أن يصبح رقما محوريا في المنطقة عبر تبني سياسة منضبطة، لا تخلو من قوة باطشة إذا وجب الأمر، ما يجعل التلاقي بينهما مستحيلا.
تستمتع دول كثيرة بالتراشق والمعارك الجانبية بين مصر وتركيا، وينحاز بعضها لهذا الطرف أو ذاك، ويترقب آخرون النتائج التي سوف يتمخض عنها المشهد، والذي قد يؤدي إلى تحديد شكل البوصلة في المنطقة واتجاهها لأي منهما، لأن كل نموذج له حلفاء وأصدقاء وأعداء.
في كل الحالات تؤكد المواجهة بكل صورها أن هناك فرزا سوف يحدث في المنطقة يشير إلى الوضع الذي يمكن أن تستقر عليه نسبيا الفترة القادمة، لأن السيولة الزائدة التي دخلتها منذ نحو عقد من الزمان مكلفة، وتمنح بعض القوى فرصة لاستثمارها وتغيير موازين كانت مستقرة لفترة طويلة. هي معركة بين تيارين لدى كل منهما رؤية مختلفة للعالم وقضاياه المحورية، خرجت من سياق المعارك التقليدية التي يمكن حسمها عبر تراكم النقاط، وأصبحت أقرب إلى الفصل فيها بالضربة القاضية.
يريد النظام المصري وضع حد للتطرف ووقف نمو التنظيمات الإسلامية الخارجة على القانون في المنطقة، ويخوض حربا ضارية ضد هؤلاء في الداخل وعلى استعداد لمطاردتهم في الخارج، ودافع عن موقفه بكل الطرق.
بينما يعمل نظيره التركي على تشجيعهم، بل واحتضانهم وتوفير ملاذات آمنة لهم وتوظيفهم في مهام عسكرية، ونجح في تحويلهم إلى مرتزقة ووصل بهم إلى نقاط بعيدة، وجعل منهم مرتكزات وأدوات رئيسية لتحقيق طموحاته، وجذب إليه طيف واسع من المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي في أماكن مختلفة ضمن أسلحته الفتاكة.
وضعت مصر الحرب على الإرهاب في قمة أولوياتها، وتضغط على حلفائها لوضع رؤية شاملة لها، وعدم التهاون مع الدول التي تحتضن أو تتورط في جرائم عنف تعتمد فيها على المتطرفين، ووضعت تركيا الإرهابيين في مقدمة الوسائل التي تسخرها، وذهبت بهم إلى مدى بعيد، حيث يجري التعامل معهم كرديف للدولة أينما وجدوا، ويتم نسج روابط بين الجانبين بسهولة.
زد على ذلك التضارب الحاصل في الأفكار بشأن جميع التدخلات التركية من شرق المتوسط إلى ليبيا وحتى السودان والصومال وصولا إلى اليمن، فهل دولة تقوم بكل هذه الممارسات وتجري وراء تفكيك المنطقة يمكن أن تلتقي مع مصر التي تبحث عن الأمن والاستقرار فيها، وتنبذ التورط في الشؤون الداخلية لأي دولة؟
تسير كل دولة على النقيض من الأخرى في قضايا عديدة هي محل تباين كبير بينهما، ما يعجل بعملية الاشتباك، حتى لو حاول كل منهما تجنب الوصول إليه، ففي لحظة معينة يمكن أن يحدث بركان يجرف معه الحذر الظاهر والتريث اللافت في تصورات مصر التي بدأت تتخلى عنهما تدريجيا وتمعن في استعراض جاهزيتها العسكرية لمقابلة تركيا وذيولها على الأراضي الليبية.
لم تعد الطريقة التي تتعامل بها تركيا مع الملفات التي تتقاطع مع المصالح المصرية تصلح معها الحرب الباردة أو الدافئة، باتت تحتاج إلى قدر كبير من الحسم، ولا بد أن يكون هناك فائز وخاسر سياسيا
تعرف أنقرة أن الدخول في هذه المواجهة سيكون مكلفا بالنسبة لها، بحكم الجغرافيا السياسية، وعوامل أخرى تتعلق بمسرح العمليات العسكرية المفتوح، ووجود جيوش لها على جبهتي سوريا والعراق، ناهيك عن الحرب الداخلية الوعرة مع الأكراد.
لذلك كلما اقتربت مصر من التلويح بالحرب في ليبيا نأت تركيا عن الالتحاق بها مباشرة، ولعل اعتمادها على الميليشيات والمرتزقة والإرهابيين يفسر هذه المسألة، ويؤكد أنها لا ترغب في أن تكون رأس الحربة في هذه المعركة.
تمضي الخلافات على وتيرة من يتمنى تحاشي المواجهة، لأنها مكلفة للدولتين، غير أن العمق الذي يرتسم عليها يدفع إلى العودة إلى جوهر المعادلة الصفرية، أي منتصر ومهزوم، بكل الوسائل الممكنة، بعد استبعاد فكرة التعايش بين مشروعين متباعدين في الشكل والمضمون، أو الانحناء للعاصفة من أي الطرفين.
تتوقف هذه المسألة على حجم التحديات التي يواجهها كل طرف في الداخل والخارج، ونوعية الأوراق التي يطوعها لصالحه، وقدرته على الحسم في الاتجاه الذي يريده. ولأن مصر تمتلك ذخيرة جيدة من الأفكار الخلاقة سوف تكون نتيجة الحسم لصالحها.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة