المواجهة الأخيرة في إدلب تبسط معضلة رجب طيب إردوغان. تركيا تحتاج إلى التفاهم مع روسيا، بسبب مصالح البلدين في سوريا. لكن تركيا وروسيا ليستا صديقتين، بل خصمان مصالحهما في سوريا متعارضة.
المغامرة التركية بشراء منظومة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات لن تجعلهما صديقتين، لكنها أغضبت حليفاً لتركيا في حلف الناتو هو الولايات المتحدة. مما أضاف إلى خلافهما بشأن الأكراد في سوريا، حلفاء الولايات المتحدة، مزيداً من الخلاف.
ما يجري على روسيا في سوريا يجري على دولة إقليمية هي إيران، الدولة الثانية التي تحارب إلى جانب بشار الأسد. وبالتالي لها مصالح متضاربة مع المصالح التركية في سوريا. فإن تقاطعت هذه المصالح واتفقت الدولتان على تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ تسمح للأتراك بالسيطرة على المنطقة المتاخمة لحدودهم، وتسمح لإيران باستمرار دعم ميليشياتها، لكان اتفاقاً مرفوضاً من العالم، ومن الدول الإقليمية الكبرى، ومحبطاً للسوريين، الذين قدمت تركيا نفسها لهم على أنها راعية مصالحهم.
إلى الغرب من الساحل السوري تستمر الأزمة التركية، هذه المرة في خلافها مع الاتحاد الأوروبي حول حقوق استكشاف الغاز في إقليم شرق المتوسط.
الخلاف نفسه، وإن لم يكن مباشراً مع مصر، إلا أنه يضيف إلى قائمة الملفات الخلافية التي ضربت العلاقات بين البلدين بسبب تبني تركيا، مع قطر، لجماعة الإخوان المسلمين التي أعلنتها مصر منظمة إرهابية، وبسبب الوضع في ليبيا.
دعم الجماعات الإرهابية ورعايتها ونشر دعايتها سبب أساسي للخلاف بين تركيا من ناحية، والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وهو السبب الأساسي الذي قاطعت بسببه رباعية محاربة الإرهاب قطر، الحليف الوحيد لتركيا إقليمياً.
«الأزمة الجيوسياسية التركية» عبارة وردت في كل تحليل للأزمة الاقتصادية والسياسية التي يواجهها رجب طيب إردوغان داخلياً. في الأسبوع الثالث من أغسطس (آب) الجاري فقدت العملة التركية 3 إلى 4 في المائة إضافية من قيمتها أمام الدولار الأميركي. وسقط اتفاق إدلب مع الروس عملياً.
كأنما تلخص إدلب انحسار إردوغان بعد مد. فما السبب؟
السبب غواية الآيديولوجية الدينية. التي تتحرك معصوبة العينين، كروبوت مأمور. الآيديولوجيا مفيدة في تجميع الجماهير سياسياً في البداية، لكن زخمها مغوٍ بالتورط في مربعات خطأ، ثم إنها ليس لها على الحياة خاطر، لن تنحرف الحياة عن مسارها إرضاء لرجل يؤمن بأنه يتصرف بإلهام سماوي. لن تنثني لكي تنفذ ما أكده الشيخ فلان، أو الناشط المؤدلج علان، أو السياسي ترتان. غالباً ستضطلع الحياة بمهمة تكذيبهم والتأكيد على قوانينها الذاتية. لكن بعد فوات الأوان.
كلما زادت الآيديولوجيا تبسيطاً، وقدرة على توليد الشعارات، غدت أطوع في أيدي الساسة، وأقدر على تجميع العوام بأعداد كبيرة حولها، فيظنونها أنفع. كلما تجمع عدد غفير ازداد هذا العدد قناعة بأنهم «على الحق»، وكلما أغرت الآيديولوجيا جدداً من «المثقفين» باكتشاف حكمتها الكامنة، وإمكاناتها المعطلة، ثم الانضواء تحت رايتها.
حصل هذا مع الشيوعيين في النصف الأول من القرن الماضي، حتى صارت الشيوعية موضة ذلك الزمان. وحدث هذا مع الإسلام السياسي في منطقتنا في النصف الثاني منه. حتى صار موضة هذا الزمان. الشيوعية نمت وسمت وهوت في 72 عاماً، ولولا الحرب العالمية الثانية لانكشفت في مدة أقصر كثيراً. الإسلام السياسي يفعل الشيء نفسه في منطقتنا، ولكن بإيقاع أبطأ. قيمه السياسية لا ينافسها في التخلف إلا قيمه الاجتماعية، ماء مسحوب من بئر حتى العصافير هجرت أوكارها القريبة منه.
تركيا إردوغان وقعت في هذا الإغواء، ولا تستطيع منه فكاكاً. تجمعت حوله الجماهير – قيدت حركته، طمست رؤيته، وخنقت خياراته، حتى تراوحت بين المر والأكثر مرارة. إن تشدد نحو اللاجئين السوريين ليكسب الجمهور الداخلي، خسر تأييد دائرته الجماهيرية الخارجية، إن أرضى روسيا في حماة خسرها في إدلب، إن تقارب إليها بالتعاون العسكري خسر حلفاءه ولم يكسبها. إن فرض سيطرته على شرق المتوسط خسر الاتحاد الأوروبي. حتى حزبه نفسه لم يسلم من انشقاق وجوه بارزة عنه وتحميله مسؤولية التراجع.
الزعيم الآيديولوجي يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه. الآيديولوجيا تورطه سريعاً بالشعبية السريعة. ثم تتركه غارقاً في حفرة الأرض الطينية الرخوة، لا تقدم له حلولاً، ولا تمد له يد مساعدة، بالعكس، تضع الحلول في مواجهة مع الالتزام العقائدي الآيديولوجي، فتقلل فرص نجاحها.
التعبد الآيديولوجي يسقط الترتيبات السياسية كقطع الدومينو. والعملة ترمومتر الأداء.
خالد البري – الشرق الأوسط