واجه إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن بعد توليها السلطة في العشرين من الشهر المقبل، شرقاً أوسط متخماً بكثير من التحديات وقليل من الفرص، ولأن مشكلات المنطقة وتوتراتها تتجاوز قدرة أميركا على معالجتها بشكل منفرد وسط تفشي وباء كورونا وتعثر تعافي الاقتصاد الأميركي، يرى سياسيون وباحثون في واشنطن أنه من دون تعاون وتنسيق القيادة الأميركية الجديدة مع قادة الدول المهمة في المنطقة، فإن الصراعات التي طال أمدها ستزداد سوءاً، وأن التعاون الأميركي مع قيادات هذه الدول هو المفتاح لحماية مصالح الولايات المتحدة ودول المنطقة على حد سواء.
أهمية الدعم الإقليمي
على الرغم من تصاعد الضغوط في واشنطن التي تطالب بابتعاد الولايات المتحدة عن الانخراط بشكل أعمق في منطقة الشرق الأوسط، استناداً إلى تقديرات غير دقيقة تقلل من أهمية التحديات الخاصة بمكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والصراعات المستمرة التي يمكن أن تُجَر الولايات المتحدة إليها، فإنه لا يزال لدى أميركا مصالح عدة ينبغي حمايتها.
وإذا كان هناك من درس يمكن أن تعيه واشنطن بعد تجاربها خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، فهو أن تدخلاتها في المنطقة لم تحقق لها ما أرادته من أهداف، وأنه من دون دعم محلي وإقليمي من الذين يقودون المنطقة، لن يكون تحقيق التغيير الحقيقي ممكناً، خصوصاً في ظل محدودية قدرة إدارة بايدن على الانخراط في مواجهة تحديات المنطقة بسبب ما تواجهه الولايات المتحدة من تأثيرات وباء كورونا وأزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.
صحيح أنه يمكن لأكبر قوة في العالم أن تعمل بمفردها في بعض القضايا في حال الضرورة القصوى سعياً لتحقيق مصالحها الحيوية، إلا أن ما يجعل تحركها في وضع أفضل هو استخدام مزيج من السياسات المتعددة الأطراف والتعددية الانتقائية عبر العمل مع الشركاء، وهو ما يُكسب الدبلوماسية الأميركية وقدرتها على إظهار قوتها، فعاليةً أكبر، بحسب عدد من السياسيين والباحثين الأميركيين.
منفعة متبادلة
وعلى حد تعبير الدوائر المقربة من بايدن، فإن الرئيس المنتخب لا يفكر في سحب القوات الأميركية من الشرق الأوسط، لكنه يفكر بدلاً من ذلك في إنهاء الحروب، وهذا يتطلب الاعتماد بشدة على دول المنطقة للتوسط في السلام وتقديم التنازلات، وطرح الحوافز للخصوم من أجل إنهاء النزاعات.
وإذا كانت إدارة بايدن تريد من دول المنطقة تقليص علاقاتها مع روسيا والصين، وخصوصاً في مجالات “الدفاع والأمن، والإنترنت، والذكاء الصناعي، والطاقة النووية”، فإن الأمر سيتطلب تعاوناً أكثر مع دول الإقليم وتقديم حوافز مشجعة على هذا التعاون المتزايد لقطع الطريق على تغلغل خصوم واشنطن في المنطقة.
ولأن الولايات المتحدة بقيادة بايدن قد تعود إلى الاعتماد على نفط الخليج ولو نسبياً، نظراً إلى أن استخراج النفط من الصخر الزيتي محلياً في الولايات المتحدة يتعارض مع أهداف أجندته لـ”الطاقة الخضراء”، إضافة إلى استبعاد تدخل بايدن في السياسة النفطية الدولية، كما كان يفعل الرئيس ترمب في بعض الأحيان، كل ذلك يجعل احتياج الإدارة الأميركية للتعاون مع الدول الرئيسة في المنطقة أمراً حيوياً وإستراتيجياً.
شراكة ضرورية
وبحسب عدد من خبراء الأمن والإستراتيجية، ينبغي على الولايات المتحدة أن تواصل بناء أنظمتها من التحالفات والشراكات في كل أنحاء الشرق الأوسط من أجل ضمان الاستقرار ومكافحة النفوذ المتزايد للقوى الخارجية في المنطقة، لأن استمرار الصراعات في كل من “ليبيا، واليمن، وسوريا، وأفغانستان”، وعدم الاستقرار في العراق والتهديد الإيراني لأمن الخليج، يجعل الشركاء والحلفاء أمراً حيوياً لحماية المصالح الأميركية في السنوات المقبلة.
ويعتبر القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية، الجنرال جوزيف فوتيل، أن وجود قائمة أطول من الشركاء والحلفاء والأصدقاء هو الأفضل دائماً لمصلحة الولايات المتحدة، بالنظر إلى أن هذه الشراكات ستكون حيوية للإستراتيجية الأميركية المستقبلية في الشرق الأوسط، حيث تتطلع واشنطن إلى حماية مصالحها أثناء التعامل مع التوترات القائمة والتأثير المتزايد للاعبين الجدد، فيما يحذر آخرون من أن دخول روسيا والصين إلى المنطقة كقوى عظمى لا يهدد فقط بالإضرار بالمصالح الأميركية، بل سيضعف أيضاً أولئك الذين يتعاونون معهما، إذ إنه بدلاً من مساعدة الشركاء على بناء قدراتهم الخاصة، فإن بكين وموسكو تستغلان هذا الوضع لزيادة نفوذهما على حساب شركائهما. ويرى هؤلاء أن الولايات المتحدة يجب أن تسعى إلى الحفاظ على مكانتها كشريك مفضل في كل أنحاء الشرق الأوسط، ما سيتيح لها الفرصة للحفاظ على مصالحها الوطنية.
مفتاح الحل
وفي منطقة تتسم بكثير من التعقيدات كالشرق الأوسط، فإن مفتاح الحل قد يكمن في الشراكة مع الآخرين، لا سيما في مناطق الصراع كما هو الحال في “سوريا، واليمن، وليبيا”، والعديد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت حتى الآن عصية على الحل، خصوصاً وأن الولايات المتحدة تمتعت بالقدرة على حشد الآخرين للعمل معاً لحل المشكلات المشتركة، وفقاً لما يقوله دانييل كيرتزر سفير الولايات المتحدة السابق في كل من مصر وإسرائيل، والباحث السياسي آرون ديفيد ميلر المفاوض السابق في وزارة الخارجية الأميركية.
ويشير المسؤولان السابقان في مقال مشترك لهما إلى مدى الفوائد التي يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة من اتباع نهج متعدد الأطراف، فعلى سبيل المثال كان مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 نموذجاً يُحتذى، حين أطلقت الولايات المتحدة وروسيا، عمليةً متعددة الأطراف للتعامل مع القضايا العالقة بين الإسرائيليين والدول العربية، حيث شُكلت خمس مجموعات عمل لتحقيق تقدم في ملفات المياه والبيئة واللاجئين والتنمية الاقتصادية ومراقبة التسلح والأمن الإقليمي، وأتاح ذلك أن تجتمع وفود إسرائيل إلى جانب كل من “فلسطين، والسعودية، ومصر، والأردن، وتونس”.
وبعد سنوات عدة، أطلقت الولايات المتحدة عملية ثانية متعددة الأطراف ركزت على الشراكات الاقتصادية بين القطاعين العام والخاص، حيث عُقدت أربعة مؤتمرات في “عَمان، والقاهرة، والدار البيضاء، والدوحة”، اجتمع خلالها مسؤولون إسرائيليون وعرب وأميركيون ودوليون ورجال أعمال للحديث عن الاستثمار والتحديات الاقتصادية.
رهان المستقبل
وعلى الرغم من أن كلتا العمليتين المتعددتَي الطرف، أسفرتا عن نتائج متواضعة، غير أن أهميتها تمثلت في حقيقة أنها حدثت بالفعل، مما سمح بعدها بإقامة نوع من العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول في المنطقة التي لا تربطها بها علاقات رسمية، وهو أمر لم تكن الولايات المتحدة وحدها قادرة على تحقيقه.
وإذا كانت الولايات المتحدة منشغلة بالمستقبل، فإنه سيكون بوسعها جمع مزيد من هذه التحالفات معاً لمعالجة القضايا المهمة التي تواجه المنطقة، والتي من المحتمل أن تكون الإجراءات الأميركية الأحادية الجانب فيها غير فعّالة، على الرغم من أن ذلك سيستغرق جهداً ووقتاً وصبراً والتزاماً.
كيف تبدو التعددية الجديدة؟
ينصح سياسيون وباحثون في واشنطن، الإدارة الأميركية الجديدة بالانخراط بقوة في المؤتمرات والمنتديات والفعاليات التي تنظمها الأمم المتحدة حول الصراع السوري وعمليتَي السلام في كل من ليبيا واليمن، وحث الأطراف على العمل بشكل فاعل بعد ما كادت الجهود الدبلوماسية تحتضر.
وفي حين أن أجندات وبرامج هذه الجهود المتعددة الأطراف وطبيعة مشارَكة الأطراف الإقليمية والدولية ستختلف من نزاع إلى آخر، فإن كثيراً من القواسم المشتركة ستتوافر وسيحتاج كل طرف إلى دراسة القضايا الجوهرية، والتعرف على كيفية تحسين الوضع على الأرض، وكيفية مساعدة الجهات الفاعلة الدولية في إدارة النزاعات والتخفيف من أضرارها أثناء البحث عن حلول. وقد يكون نموذج “مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي” الذي ساعد في إدارة العلاقات بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة مناسباً، حيث يمكن دراسة المسائل المتعلقة بالنزاعات الإقليمية، وإمكانية التعاون في العلوم والتكنولوجيا، كما يمكن البناء على نماذج قائمة بالفعل مثل “نموذج جنيف” في ما يتعلق بالصراع في سوريا أو “الرباعية الدولية” بالنسبة إلى النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
منتديات قائمة
وبينما لم تحقق جهود التنمية البشرية العربية التي يرعاها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سوى القليل، فإن البعض يراهن على المنتديات متعددة الأطراف التي يمكن أن يكون لها تأثير فعال في المجتمعات العربية، من أجل دفع برامج مثل الإصلاح التعليمي إلى الأمام والتركيز بشكل أكبر على تحفيز التفكير الإبداعي، وتعزيز مشاركة المرأة وتمكينها من أجل جلب المزيد من النساء إلى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية.
ومن خلال توسيع نطاق مساهمة المواطنين في البلدان المشارِكة، إضافة إلى تركيز العمل لإحداث تقدم في كل مجال، يمكن أن تؤدي هذه المنتديات والمؤتمرات إلى نتائج تتمتع بالموافقة الإقليمية ودعم المانحين الدوليين، فضلاً عن تعزيز الحوار والمناقشة والمساهمات عبر مشاركة الحكومات والمنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة وغيرها.
ماذا سيحقق التعاون الإقليمي؟
هناك مجالات عدة يمكن للمشاركات المتعددة الطرف أن تساعدها في أن تخطو إلى الأمام، وعلى الرغم من أن التعاون الأمني الإقليمي في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط على سبيل المثال يحتاج إلى كثير من النقاش، فإنه يمكن البدء في صياغة خطط العمل في مسعى لاستخلاص أفضل الأفكار المطروحة.
كما أن من شأن المشاركات المتعددة الطرف أن تفيد التعاون الإقليمي بشأن القضايا الملحة الأخرى، مثل قضايا “الصحة العامة، والمياه، وتغير المناخ، والبيئة”، بالاعتماد على الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة.
العائد من العمل متعدد الأطراف
وفي حين يُتوقع أن تكون إدارة بايدن منشغلة بقضية التعافي الاقتصادي أكثر من أي قضية أخرى، فقد لا تفضل تخصيص الوقت والموارد لإطلاق مبادرات جديدة متعددة الأطراف مقارنةً بمحاولة إحداث حراك بجهود فردية أحادية، لكن إذا كان القادة الأميركيون عازمون على ممارسة نوع من القيادة التي أظهروها عندما قرروا حشد التحالفات الدولية في الماضي، فإن أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة سيرحبون على الأرجح بالجهود الأميركية متعددة الأطراف، حتى ولو كانت تعددية انتقائية.
ومع العمل الفعال المتعدد الطرف، يمكن التغلب على عدد لا يُحصى من التحديات التي تواجه هذه المنطقة وتحقيق مردود جيد من العمل الجاد والاستثمار طويل الأجل في المشاركة الانتقائية بين الأطراف، كما سيعيد مصداقية الولايات المتحدة وقيادتها، ويخلق مساراً للتقدم من أجل التعامل مع مشاكل المنطقة الأكثر إلحاحاً، ويساعد في تأمين مستقبل أفضل وأكثر أماناً لحلفاء أميركا وأصدقائها.
طارق الشامي- مختص في الشؤون الأميركية والعربية- عن اندبندت عربية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة