تُعلِن جميع الأطراف السورية الآن تمسّكها بقرار مجلس الأمن 2254 القاضي، حسب النصّ، بتبنّي «عمليّة انتقال سياسي تهدف إلى التوصّل لتسوية دائمة للأزمة ضمن عمليّة سياسيّة بقيادة سوريّة مدّتها ستة أشهر» تنتج دستورا جديدا. كما ينصّ هذا القرار على القيام بـ «انتخابات حرّة ونزيهة تجري، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحقّ لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر». علما أنّ هذا القرار لا يبيّن إن كانت هذه الانتخابات رئاسيّة أم برلمانيّة؟
بالمقابل ينصّ الدستور السوري لعام 2012 على ضرورة إجراء انتخابات لرئاسة الجمهوريّة عام 2021، أي بعد أقلّ من 24 شهرا من اليوم. كانت تأدية القسم الدستوري للولاية الحالية قد تمّت في 16 يوليو 2014. ما يعني أنّه مع تعثّر المفاوضات حول إنشاء اللجنة الدستوريّة واحتمال أن تغرق، إن تمّ تشكيلها، في سجالات دون نتيجة، بات الاحتمال كبيرا كي تتمّ إعادة انتخاب الرئيس الحالي لمدّة سبع سنوات جديدة.
هذه الأطر الأمميّة والسوريّة ليست وحدها ما يمكن أن يؤدّي لمثل هذا الأفق. بل أيضا غياب بديل أو بدائل يمكن أن تطرحها الأطراف المعارضة، بالمعنى السياسيّ، كي لا يستمرّ حكم رئيسٍ في ظلّ نظامٍ جمهوريّ لـ28 عاما وأكثر.
بالطبع تمّ وضع الدستور الحالي كي لا ينجح أيّ معارض سياسي بارز يُمكن أن يكسب ثقةً واسعة.. حتّى بمجرّد الترشّح إلى هذا المنصب. مسألة الترشّح تقتضي أن يكون المعنى مقيما في سوريا لمدّة لا تقلّ عن عشر سنوات متّصلة. أي ما يُلغى عمليّا الإمكانيّة بالنسبة لمعظم «المعارضين» الذين اضطروا للخروج من البلاد بسبب الحرب. كما يشترط حصول المرشّح على 35 توقيعا من أعضاء مجلس الشعب الحالي الـ250 وتمتّعه بحقوقه المدنيّة والسياسيّة.
وهنا يبرز التساؤل حول أولويّة تغيير شروط الترشيح هذه ضمن وثيقة فوق دستوريّة بالضرورة وإصدار قانون انتخابي يضمن المنافسة الحقيقية كي تتوافق الانتخابات الرئاسيّة في 2021 مع قرار مجلس الأمن؟ وهذا حتّى لو لم يتمّ إنتاج دستورٍ كاملٍ في سياق مفاوضات جنيف أو غيرها. والآفاق مفتوحة لإيجاد حلول ضمن مثل هذا السياق، بأن يتمّ انتخاب مجلس رئاسيّ مباشرةً بدل رئيسٍ واحد يعيّن هو نوّابه ويحدّد هو أيضا صلاحيّاتهم.
والتساؤل الأهمّ هو حول الشخصيّات البديلة التي يُمكن أن تتقدّم للتنافس مع الرئيس الحالي؟ لا بدّ لهذه الشخصيّات، كي تمتلك حظوظا حقيقيّة في الفوز، أن تكسب تأييدا شعبيّا من السوريين في مناطق السيطرة القائمة حاليّا ــ مناطق الحكومة والشمال الشرقي وادلب الكبرى وشمال حلب ــ بالإضافة إلى بلدان اللجوء. وهذا يعني أنّها يجب أن تمثّل بديلا حقيقيّا لدى جميع فئات الشعب السوريّ المنقسم على نفسه من جرّاء الحرب والدمار والتدخّلات الخارجيّة، أي لدى الأكراد والعشائر العربيّة، ولدى الغاضبين على السلطة الذين يقتل القصف أبناءهم، ولدى الأوساط المنخرطة تركيّا، كما خاصّةً لدى جميع الأطراف التي تخوّفت من «المعارضة» وبقيت في كنف الدولة رغم العقوبات والحرمان.
ليس مؤكّدا أن تستطيع «الهيئة العليا للتفاوض» التوافق على مرشّحٍ، فهي تمثّل مكوّنات سياسيّة شديدة الاختلاف بينها لا يوحدها سوى العمل على «تغيير النظام». وكذلك هو الأمر بالنسبة للأطراف المعارضة التي لم تنخرط في مثل هذه الهيئة. هذا بالرغم من الدعوات الكثيرة اليوم «لتوحيد المعارضة» من قبل السوريين أنفسهم والتي تصطدم بآثار فشل المحاولات السابقة وما أدّت إليه من تنابذ بين رموز هذه «المعارضة» ونبذٍ لتفضيل ذاتيّاتها أمام خدمة مواطنيها. تماما كما رئيس السلطة القائمة.
وماذا لو ترشّحت «رموز معارضة» عديدة، الواحدة ضدّ الأخرى، لكي تنقسم الأصوات بين من يناصر هذا وذاك؟ ستأتي النتيجة هي ذاتها.
أضِف أنّ هذه «الرموز» منشغلة اليوم في تحليلات جيوسياسيّة واجتماعيّة وفي كتابة مذكّراتها ونادرا ما تطرح مشروعا للمستقبل يُمكن أن يكون بديلا يحمل سلاما أهليّا ومسافةً من كلّ الدول المتصارعة على الأرض السوريّة وموقفا حازما من التطرّف والإرهاب وأفقا اقتصاديا واجتماعيا لإعادة اللاجئين والمهجرين والإعمار. واللافت أنّ هذه الأمور هي التي يُمكن أن تجعل البديل بكلّ بساطة.. بديلا. إذ إنّ السلطة القائمة اختارت منذ اليوم الأوّل الحلّ الأمنيّ لأنّها لا تعرِف كيف تصنع السلام المجتمعيّ، واختارت الانحياز كاملا لدولٍ دون أخرى، ودفعت فئات مختلفة نحو التطرّف والإرهاب، ولا تريد حقّا إعادة المهجّرين ولا ترى في إعادة الإعمار سوى فرصة للمضاربات العقاريّة وجني الأموال الخاصّة.
إنّ «توحيد المعارضة» السوريّة يتجاوز بالضرورة عقد مؤتمرٍ في عاصمةٍ ما لصياغة بيان. خاصّة وأنّ البيانات الختاميّة التي تلاحقت لم تأتِ حقّا بجديد منذ 2012 مع اختلاف الأوضاع على الأرض بشكلٍ كبير منذ ذلك الحين. ولا يكمُن إنتاج البديل في تسويق «رموز» معارِضة من قبل قنوات إعلاميّة فضائيّة تُبرِز من تراه دولها يخدم مصالحها. بل يأتي من العمل السياسيّ الدءوب للتواصل مع كل فئات الشعب السوريّ وتفهّم مخاوفها وطموحاتها. كما يكمُن في العمل مع جميع القوى السياسيّة والاجتماعيّة للتوجّه ضمن السياق المتاح، أي قرار مجلس الأمن والدستور القائم، إلى الخروج باقتراحات عمليّة لانتقال سياسيّ يحمل بدائل اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة تشكّل أفقا معقولة لأغلب السوريين.
قد يبدو هذا الطرح غريبا في واقع اليوم، حيث تحتدم المعارك في ريف إدلب وحلب، وتهدّد تركيا باجتياح جزء آخر من الأرض السوريّة، وحدها أو بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وفي ظلّ بقاء داعش وأخواتها كتنظيمات إرهابيّة تزرع الموت والخوف. رغم ذلك كلّه لا بدّ للحرب أن تحطّ رحالها. ولا بدّ للسوريين أن يفكّروا منذ الآن في حقبة ما بعد الحرب وكيف يتمّ صنع السلام؟
لم تعُد «المعارضة» تقول «بإسقاط النظام بكلّ رموزه وأركانه» بل بالتفاوض. ولم تعُد «قوات سوريّا الديموقراطيّة» تتحدّث كثيرا عن «روجافا» (غرب كردستان) بل عن التواصل مع السوريين الآخرين والحفاظ على وحدة سوريا. ولم يعُد لدى من يعيش في مناطق الحكومة من أمل أن تعمل السلطة الحالية لتخدم المواطنين بدل مصالحها وأن تخرج بهم للسلام والاستقرار والنهوض. بالتالي من المفترض أن يتمّ التفكّر منذ اليوم في كيفيّة صنع البديل ببرنامجه أوّلا… وكذلك برموزه.
سمير العيطة – الشروق