ضحت أرمينيا بناغورني قره باغ بعدما قرأ رئيس الوزراء فيها التطورات السياسية في القوقاز جيدا خصوصا في ظلّ أربعة معطيات، أول هذه المعطيات أهمية الغاز وأنابيب الغاز ومدى الاهتمام الأميركي بذلك.
الرحيل عن ناغورني قره باغ أفضل من وقوع مجزرة
تجنب الأرمن مجزرة جديدة. لم يكن في ناغورني قره باغ، المطوقة من معظم الجهات، من كان مستعدا ليهبّ إلى نجدة نحو 120 ألف أرمني يعيشون في هذا الإقليم الذي أعلن نفسه جمهوريّة مستقلة.
في سياق الانتصار الأذري، ثمة انتصار كبير لتركيا سجلته، في ضوء العلاقة الوثيقة التي تربطها بأذربيجان. جاء هذا الانتصار مع إعلان الزعيم الانفصالي للإقليم الأرمني أن “الجمهورية الانفصالية” غير المعترف بها دوليا ستزول في مطلع العام المقبل. يظل رحيل الوجود الأرمني عن ناغورني قره باغ، بكلّ ما في ذلك من آلام لشعب ارتبط بأرضه تاريخيا، أفضل من وقوع مجزرة في وقت ليس هناك من هو مستعد لإغضاب أذربيجان أو تركيا.
ليس من يريد إغضاب هذين البلدين، لا تريد روسيا ذلك ولا إيران. هذا ما يفسر الفشل الروسي في توفير الضمانات لأهل الإقليم. هناك ألفا جندي روسي في ناغورني قره باغ مهمتهم المحافظة على الهدنة فيها ومنع الأذريين من السيطرة على الإقليم. لم يفعل هؤلاء شيئا عندما شنت أذربيجان هجومها المفاجئ أخيرا. الأكيد أن رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان، الذي على علاقة سيئة بالرئيس فلاديمير بوتين، كان يعرف ما الذي يفعله. فضّل الهزيمة على المجزرة. فضّل عمليا المحافظة على أرمينيا لا أكثر ودفع ثمن ذلك في ناغورني قره باغ.
◙ الأكيد أن الخيبة الأرمنية تتجاوز روسيا. أظهرت التجارب أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، التي كانت تدعم أرمينيا، لا تستطيع الذهاب بعيدا في حمايتها من أذربيجان
من الواضح أنّ أذربيجان، بالتفاهم مع تركيا، اتخذت قرارا بإنهاء وجود إقليم ناغورني قره باغ الذي أقامه أهل المنطقة من الأرمن. سقط الإقليم عسكريا. قبل ذلك سقط سياسيا في غياب من يلوّح حتى بالدفاع عنه.
كان انفصاليو الإقليم أعلنوا في 20 أيلول – سبتمبر الماضي موافقتهم على وقف إطلاق النار، إثر تعرضهم لسلسلة نكسات في أرض المعركة على يد الجيش الأذري، بعد يوم واحد من تفجر القتال.
معروف أن الجمهوريتين السوفياتيتين السابقتين، أذربيجان وأرمينيا، خاضتا حربين للسيطرة على إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه والذي تسكنه غالبية من الأرمن. كانت الحرب الأولى في تسعينات القرن الماضي والثانية في العام 2020.
رعت موسكو اتفاقا لوقف إطلاق النار أنهى المعارك في 2020، ونشرت قوة لحفظ السلام هناك، لكن تلك القوات لم تمنع الهجوم الخاطف الأخير للقوات الأذرية.
ما الدروس التي يمكن استخلاصها من الذي حدث في ناغورني قره باغ؟
قد يكون الدرس الأوّل أن الدور الروسي في تلك المنطقة الآسيوية التي تعتبرها موسكو مجالا حيويا لها لم يعد موجودا. بات واضحا أنّ روسيا غارقة إلى ما فوق رأسها في الوحول الأوكرانيّة ولم تعد لها القدرة على ممارسة أيّ نفوذ في القوقاز. الأهمّ من ذلك كلّه أن أرمينيا نفسها تعي أهمّية خطوط الأنابيب التي ستنقل الغاز الأذري إلى أوروبا عن طريق تركيا، وهي تريد أن تكون أحد الممرات التي تسلكها هذه الأنابيب. من هنا، ليس مستبعدا تحسّن العلاقات الأذرية – الأرمنية مستقبلا، كذلك العلاقات التركيّة – الأرمنية.
يحصل ذلك كلّه في ظلّ تقارب أرمني – أميركي عبّر عنه إجراء مناورات عسكرية بين الجانبين قبل فترة قصيرة. لم تعد أرمينيا تلك الجمهوريّة السوفياتية التي تدار من موسكو كما كانت عليه الحال في الماضي القريب، حتّى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في أواخر العام 1991. لم يخف وزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف تضايق بلده من هذه المناورات. ذهب إلى حد تحذير أرمينيا من الاعتماد على أميركا مشيرا إلى أنّ أميركا طرف لا يمكن الاعتماد عليه. لم يقل لنا لافروف ما مصير الدول التي اتكلت على روسيا التي يبدو أنّ لا همّ لها، على سبيل المثال، سوى المحافظة على نظام أقلوي في حرب مع شعبه، مثل النظام السوري!
◙ ثمة انتصار كبير لتركيا سجلته، في ضوء العلاقة الوثيقة التي تربطها بأذربيجان. جاء هذا الانتصار مع إعلان الزعيم الانفصالي للإقليم الأرمني أن “الجمهورية الانفصالية” ستزول في مطلع العام المقبل
الأكيد أن الخيبة الأرمنية تتجاوز روسيا. أظهرت التجارب أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، التي كانت تدعم أرمينيا، لا تستطيع الذهاب بعيدا في حمايتها من أذربيجان. ليس سرّا أن الأذريين موجودون في داخل إيران وهم شعب من الشعوب الإيرانية، وهم في أكثريتهم الساحقة من الشيعة. يشغل الأذريون مواقع مهمّة في الدولة الإيرانيّة. من المفيد الإشارة إلى أنّ علي خامنئي “المرشد” في “الجمهورية الإسلاميّة” من أصول أذرية. خلاصة الأمر أنّ لا مجال لأيّ تدخل إيراني في مصلحة أرمينيا والشعب الأرمني في ناغورني قره باغ وغيرها. عندما يتعلّق الأمر بأذربيجان يتفوّق الانتماء إلى القومية التركيّة على كلّ ما عداه. تتفوّق القوميّة على المذهب في أذربيجان التي تربطها علاقة قويّة بتركيا وأميركا وإسرائيل. لا تتجرأ إيران على الاحتكاك بأذربيجان، خصوصا أنها في حاجة إلى أراضيها كممر لدول أخرى تربطها بها علاقات في المنطقة.
ضحت أرمينيا بناغورني قره باغ بعدما قرأ رئيس الوزراء فيها التطورات السياسية في القوقاز جيدا، خصوصا في ظلّ أربعة معطيات. أول هذه المعطيات أهمية الغاز وأنابيب الغاز ومدى الاهتمام الأميركي بذلك. يتمثل المعطى الثاني بالعجز الروسي عن لعب دور في القوقاز. لا يعود ذلك إلى انكشاف الضعف الروسي في أوكرانيا فقط. ثمة عامل آخر لا بدّ من أخذه في الاعتبار وهو أنّ كلّ الجمهوريات القائمة في تلك المنطقة تمتلك مخاوف من التوجهات الروسيّة خصوصا بعد الحرب التي شنّها فلاديمير بوتين على أوكرانيا مستندا إلى أسباب واهية. أمّا المعطى الثالث فيتمثل في الموقف الإيراني من أذربيجان. لا استعداد لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” لأيّ مغامرة من أيّ نوع مع أذربيجان لأسباب أكثر من معروفة على الرغم من العلاقة الوثيقة بين باكو من جهة وإسرائيل وأميركا من جهة أخرى.
يبقى المعطى الرابع المتمثل في التقارب الأميركي – التركي. إنّه تقارب لا تستطيع أرمينيا تجاهله بأيّ شكل على الرغم من كلّ العداء لتركيا، وهو عداء يقيم في قلب كلّ أرمني!
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة