يبدو أن تركيا مصممة على استكمال استدارتها في سياساتها الخارجية التي بدأت منذ نحو سنة. وإذا كانت محاولات تركيا، الناجحة حتى الآن، تقتصر على نتائج ملموسة في دولة واحدة هي الإمارات العربية المتحدة، فإن الجهود في باقي المسارات قطعت شوطاً طويلاً، فبعضها نفسي وبعضها عملي ومنها السعودية ومصر وأرمينيا وإسرائيل.
وكانت هذه السياسات قد وصلت في نهاية عام 2020 إلى ذروة ما يسمى في تركيا ب«العزلة العزيزة»؛ أي أنها كانت في علاقاتها مع جميع دول الشرق الأوسط وشرق المتوسط، باستثناء قطر، معزولة ليس من صديق أو شريك جدي لها في كل مشكلات هذه الساحات.
ومع أن الاتصالات مع الإمارات العربية المتحدة، بدأت مقارنة مع مصر متأخرة، إلا تطورها كان متسارعاً منذ منتصف عام 2021، ولم تأت نهاية العام إلا وكان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، يزور أنقرة. ومن ثم في فبراير/شباط من العام الجاري كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يرد الزيارة، بما يعني اكتمال عنقود العلاقات.
تؤكد الصحافة التركية الموالية لحزب العدالة والتنمية، أهمية التحولات الجديدة في السياسة الخارجية التركية. وهذا يعني أن عملية الاستدارة قائمة على قدم وساق.
تبدو العلاقات مع إسرائيل في المرتبة الثانية من حيث تسارعها مع تركيا. فقد زار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، أنقرة، قبل نحو شهر واستقبل بحفاوة بالغة، وتنتظر إسرائيل أن يرد أردوغان الزيارة قريباً جداً. وفي هذا الإطار ستكون زيارة وزيري الخارجية والدفاع التركيين إلى إسرائيل خلال أيام للتحضير لهذه الزيارة المرتقبة.
ومع أن مركز الثقل في الحياة السياسية الإسرائيلية هو رئيس الحكومة، فإن المسار الجاري حتى الآن، يعكس ديناميكية بين البلدين عالية، ما كان لها أن تُرى واقعاً قبل سنتين أو أقل.
إن تحسين العلاقات مع الإمارات لا يكتمل إلا بتصحيح العلاقات مع السعودية، وهو الأمر الذي يطبخ على نار حامية وقد يتمثل بزيارة قريبة لأردوغان، على ما تعكس بعض وسائل الإعلام التركية إلى السعودية، سواء قبل نهاية شهر رمضان أو بعده.
أما مع مصر فالأمور كما يقال ليست متوقفة، وإن كانت العلاقات تسير ببطء مقارنة مع الدول الأخرى. ولعل تلبية وزير خارجية مصر سامح شكري دعوة لنظيره التركي على مائدة إفطار قريباً في إسطنبول من علامات التسريع في التطبيع بينهما، وتبقى مسألة تبادل الزيارات بين أردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي مؤجلة إلى مواعيد لا تبدو قريبة.
أما المحطة الخامسة التي يبتهج الإعلام التركي بتطوير العلاقات معها، فهي أرمينيا. ومع أن الملفات بين البلدين أكثر من شائكة، وتحتاج إلى معجزة لا ترى حتى بالميكروسكوب، فإن المسار الحالي للعلاقات كسر الجمود الذي يطبعها منذ أكثر من 13 سنة.
وسط كل هذه العلامات الإيجابية في سياسة تركيا الخارجية والتي جاءت نتيجة تغير الظروف الإقليمية والدولية، وضغط الحاجة الداخلية التركية المتمثلة في اقتصاد متصدع، وتراجع مخيف في سعر صرف العملة التركية، وتراجع القيمة الشرائية لها لدى المواطنين، ومحاولة أردوغان تحسين الظروف حتى لا يصل إلى الانتخابات الرئاسية بعد عام ونيّف باقتصاد ضعيف ومنهك يؤثر سلباً في حظوظه في الفوز من جديد بالرئاسية التركية، فإن قطبة ضائعة وكبيرة لا تزال مفقودة في الثوب الجديد لسياسة أنقرة الخارجية وهي القطبة السورية. فالعلاقات بين الدول وجيرانها المباشرين هي العلاقات الأهم والأكثر جدوى من علاقات مع دول أخرى قريبة أو بعيدة.
ولا شك في أن العلاقات مع سوريا تكتسب أهمية وحساسية فائقتين، وتنوء تحت عبء ملفات كبيرة وصعبة جداً لا يمكن مقارنتها بأي ملفات مع دول أخرى باستثناء قبرص الجنوبية واليونان، وكذلك أرمينيا. وبمجرد أن تكون تركيا محتلة لأجزاء من سوريا وتمسك بأربعة ملايين لاجئ سوري على أراضيها ولها في إدلب عشرات آلاف المسلحين غير الأتراك، ولا تعترف لا بالنظام ولا بالدولة السورية، فإن طرق باب تسوية هذا الملف تكتنفه صعوبات كثيرة، تحتاج أولاً وقبل كل شيء، إلى إرادة ورغبة تركيتين قويتين، بما فيه الكفاية لتنسحب من هذا الملف. وفي تقديري أن الرغبة والإرادة غير متوفرتين في السلطة الحالية في تركيا. وربما على العلاقات بين البلدين أن تنتظر نتائج انتخابات الرئاسة التركية بعد عام ليتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
محمد نور الدين – الخليج الإماراتية – المقال يعبر عن رأي الكاتب أو الموقع